الحلقة الأولى

 

سيطولُ بعدي يا سكينة فاعلمي   ***   منكِ البكاءُ إذا الحِمامُ دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً   ***   ما دامَ منِّي الروحُ في جثماني

فإذا قتلتُ فأنتِ أولى بالذي   ***   تأتينه يا (خيرة النسوان)

هذه الأبيات قالها سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) مخاطباً بها ابنته السيدة سكينة (عليها السلام) يوم عاشوراء مصبِّراً إياها على فقده، وهي تعطي صورة واضحة وجلية عن مكانة السيدة سكينة العظيمة في نفس أبيها، فبكاؤها عبّر عنه (عليه السلام) بأنه (يحرق القلب) فهو لا يريد أن ينظر إلى دموعها وهو حي فإن ذلك يؤلمه لمكانة ابنته وخاصيتها في نفسه الشريفة، كما بيّنت الأبيات منزلتها السامية في الفضيلة والرفعة بين نساء أهل زمانها حين وصفها بـ (خيرة النسوان) فهي من البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا، وهو البيت الذي لا يقاس به بيت مهما بلغ في الدرجة الرفيعة كما وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام): (لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ وَلَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَعِمَادُ الْيَقِينِ إِلَيْهِمْ يَفِي‏ءُ الْغَالِي وَبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ وَفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَالْوِرَاثَةُ) فهم: (مَوْضِعُ سِرِّهِ وَلَجَأُ أَمْرِهِ وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ وَكُهُوفُ كُتُبِهِ وَجِبَالُ دِينِهِ بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَأَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ).

في هذا البيت الذي يفوح منه أريج النبوة وتخفق فيه أجنحة الملائكة ويتردد في أرجائه صدى الوحي ولدت السيدة سكينة، أما اُمّها وأم أخيها عبد الله الرضيع المذبوح يوم الطف فهي السيدة الرباب بنت امرىء القيس بن عدي القضاعي.

وُصفت السيدة سكينة بـ (سيّدة نساء عصرها) لكمالها وأخلاقها وتقواها وأدبها وفصاحتها وعبادتها حيث يدلنا قول أبيها الإمام الحسين على مدى تعلقها بالله في قوله: (وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله) وهذه الكلمة لها دلالاتها العظيمة خاصة إنها صدرت من معصوم.

كما تدلنا الأبيات التي قالها على مدى تعلقه بها وتعلقها به حينما قال:

لعمـركَ أنّنـي لاُحـبّ داراً   ***   تـحلّ بهـا سَكينـة والربابُ

أحبّهما وأبـذل جـلّ مـالي   ***   ولـيس للائمـي فيهـا عتابُ

ولستُ لهم وإن عتبوا مطيعاً   ***   حيـاتي أو يعلّيني الترابُ

وقد روي إن سَكينة هو لقبها لا اسمها وإن اسمها هو آمنة كما ذكر ذلك الشيخ عباس القمي في كتابه: (نفس المهموم) حيث قال: (أن اسمها آمنة وقيل أمينة وإنما أمها الرباب لقبتها بسكينة) وقد نقل هذا القول عن ابن خلكان في ترجمتها في (وفيات الاعيان) وابن العماد في شذرات الذهب (ج١ص١٥٤) والشبلنجي في (نور الأبصار) ص (١٥٧) وعلق القمي على ذلك بالقول: (ويظهر أن أمها إنما أعطتها هذا اللقب لسكونها وهدوئها. وعلى ذلك فالمناسب فتح السين المهملة وكسر الكاف التي بعدها،  لا كما يجري على الالسن من ضم السين وفتح الكاف).

كربلاء صبغة الحزن المستديم

اصطبغت حياة هذه السيدة الطاهرة بالفجيعة وطبعت ذاكرتها على المأساة فقد كتب عليها أن تشهد وترى بعينيها يوم عاشوراء بكل مآسيه وأهواله، رأت جسد أبيها وأجساد أخوتها وأعمامها وبني عمومتها وأهل بيتها وهي مغطاة بالدماء في كربلاء ورأت حتى جسد أخيها الرضيع وهو مذبوح فبقي ذلك المنظر متجدداً معها فلازمها الحزن والبكاء طوال حياتها، يهز كيانها ويملأ عينيها بالدموع فتفيض روحها الماً وحسرة حتى فاضت تلك الروح الطاهرة إلى بارئها.

وتشير أبياتها المفجعة التي قالتها في يوم عاشوراء على عظيم فجيعتها حيث تذوب روحها في أبياتها التي رثت بها أبيها في ذلك اليوم:

لاتعذليه فهمٌّ قاطعٌ طُرقُه   ***   فعينُه بدموعٍ ذُرّفٍ غَدِقَه

إنَّ الحسينَ غداةُ الطفِّ يرشقه   ***   ريبُ المنونِ فما أن يخطىءَ الحدقه

بكفِّ شرِّ عبادِ اللهِ كلهم   ***   نسلُ البغايا وجيشُ المُرَّقِ الفَسقه

يا أمةَ السوءِ هاتوا ما احتجاجكم   ***   غداً وجلُّكمُ بالسيفِ قد صفقه

الويلُ حلَّ بكمْ إلّا بمن لحقه   ***   صيَّرتموه لأرماحِ العِدى درقه

يا عينُ فاحتفلي طولَ الحياةِ دماً   ***   لا تبكِ ولداً ولا أهلاً ولا رفقه

لكن على ابن رسولِ اللهِ فانسكبي   ***   قيحاً ودمعاً وأثريهما العَلقه

سكبت السيدة سكينة عصارة روحها في هذه الأبيات التي تفوق معنى الألم والحزن فكانت عبارة عن لوحة تراجيدية تصف شعورها في ذلك اليوم المأساوي، كما تصف في تصاعدها حدة الغضب على الوحوش الآدمية التي ارتكبت هذه المجزرة والتي اهتزت لها أظلة العرش فالمشهد يذكي الأحاسيس والمشاعر ويؤجج نار الألم.

بقيت صور عاشوراء تعيش معها صورة صورة وحدثاً وحدثاً فأية صورة تُنسى؟ وأي حدث يُسلى؟ أصورة أبيها وهو مسجى على التراب وقد رفع رأسه على الرمح؟ أم صورة كفي عمها وهما مقطوعتان على النهر؟ أم صورة أخيها الرضيع وقد اخترقت النبلة رقبته؟ أم صورة أخيها وهو عاجز يصارع المرض؟ أم صورة عماتها وأخواتها وهن يهربن من حر النار من خيمة إلى خيمة وقد لاحقتهن السياط؟ أم... أم... أم .... ؟!!

بقيت صبغة الحزن العميق ملازمة للسيدة سكينة حتى فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها عام (117هـ) وعمرها الشريف (74)عاما.

 

محمد طاهر الصفار