أفي شهرِ الصيامِ فجعتمونا   ***   بخيرِ الناسِ‌ طرّاً أجمعينا

قتلتم خيرَ من ركبَ المطايا   ***   فذللّها ومن ركبَ السفينا

ومن لبسَ النعالَ ومن حذاها   ***   ومن قرأ المثاني ‌والمئينا

وكل مناقبِ الخيراتِ فيه   ***   وحبّ رسولِ ربِّ العالمينا

لقد علمتْ قريشٌ حيث كانت   ***   بأنكَ ‌خيرَها حسباً ودينا

هذه الأبيات من قصيدة طويلة تعدّ مصداقاً للرثاء الحقيقي الذي قصده الجاحظ بقوله لمن سأله: ما بال المراثي أجود أشعاركم ؟ فقال: لأننا نقول وأكبادنا تحترق...

تميّزت المراثي التي قيلت في الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) واستذكار حادثة استشهاده على أكثر عناصر الرثاء أصالة..، فالتفجّع فيها صدر عن قلوب ولهى وعبرات حرى..، واستذكار المآثر العظيمة التي تحلى بها (عليه السلام) كانت مصدراً ومنبعاً للشاعر ليستقي منها.

 

وفضلاً عن تميّز تلك المراثي بصدق العاطفة المستندة إلى العقيدة التي ترسخت في أذهان وقلوب الشعراء عن مكانة أمير المؤمنين من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد امتزجت أيضاً باستذكار صفاته الذاتية العظيمة وإنسانيته الملائكية فكان الرثاء فيه يصدر عن قلب ملتاع الزفرات ملتهب العبرات يستثير الدموع ويوقد اللوعة والحزن في النفوس.

وكان للشعر النسائي دور كبير في هذا الرثاء، ولو قُيّض لمن يجمع هذا الشعر الممزوج بالحب والوفاء لأمير المؤمنين (عليه السلام) من بطون الكتب ويلملم هذه الدرر من الأبيات المتناثرة هنا وهناك، فإنه بلا شك سيتحف المكتبة الإسلامية والعربية بمصدر غني ومنبع ثرٍ من موارد الثقافة والمعرفة وسيضيف إلى رصيدها الفكري رصيداً إبداعياً ولائياً خالصاً معبّقاً بأريج العقيدة.

فمن يتتبع هذه الشذرات الإيمانية يجد الكم الهائل منها وهي تمثّل آية من آيات البلاغة والفصاحة الممزوجة بدموع الألم والحزن على هذه المصيبة، كما يجد الكثير من أسماء الشاعرات اللواتي تفطرت قلوبهن على فقد سيدهن أمير المؤمنين.

كما لم تخل تلك المراثي من نبرة السخط والغضب ضد أعداء أمير المؤمنين وعلى رأسهم معاوية فكان لمشاعر الندم التي أصابت نفوس المسلمين بفقده تتجاوز حدود الرثاء لتصل إلى الجزع على فقده.

ومن الشخصيات النسوية العظيمة التي كان لها دور في نصرة ورثاء أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواقفها وشعرها السيدة أم الهيثم بنت الأسود النخعية ..

قال عنها السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة: (تابعية من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌ السلام وشيعته، شاعرة، ولم نجد من ذكرها باسم غير اُم الهيثم، ولعل اسمها كنيتها أو اشتهرت بالكنية، وقد اختلفت كلماتهم في اسم أبيها: فالمفيد في الإرشاد وأبو مخنف – كما أورد عنهما أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين - قالا: اُم الهيثم بنت الأسود النخعية. وابن عبد البر في الاستيعاب، وابن الأثير في اُسد الغابة قالا: اُم الهيثم بنت العريان النخعية. وابن حجر في الإصابة قال: اُم الهيثم النخعية).

ثم يعزي السيد الأمين هذا الاختلاف في الأسماء بقوله: (ولعلها نسبت تارة إلى أبيها وأخرى إلى جدها).

وقد اشتهرت أم الهيثم بقصيدتها المفجعة في رثاء أمير المؤمنين والتي تعتبر من أفضل الشعر النسائي في التاريخ الإسلامي وسيرى القارئ آيات البلاغة وسمو المعنى في ثناياها كما يجد عميق الألم والحزن على فقد أمير المؤمنين بين سطورها وهذه هي القصيدة:

ألا يا عين ويحكِ أسعدينا   ***   ألا فابكي أمير المؤمنينا

أتبكي أم كلثوم عليه   ***   بعبرتها وقد رأتِ اليقينا ؟

ألا قلْ للخوارجِ حيث كانوا   ***   فلا قرّت عيونُ ‌الشامتينا

أفي شهرِ الصيامِ فجعتمونا   ***   بخيرِ الناسِ‌ طرّاً أجمعينا

قتلتم خيرَ من ركبَ المطايا   ***   فذللّها ومن ركبَ السفينا

ومن لبسَ النعالَ ومن حذاها   ***   ومن قرأ المثاني ‌والمئينا

وكل مناقبِ الخيراتِ فيه   ***   وحبّ رسولِ ربِّ العالمينا

لقد علمتْ قريشٌ حيث كانت   ***   بأنكَ ‌خيرَها حسباً ودينا

إذا استقبلتَ وجهَ أبي حسينٍ   ***   رأيتَ البدرَ راقَ الناظرينا

وكنّا قبلَ مقتلهِ بخيرٍ   ***   نرى مولى رسولِ الله فينا

يقيمُ الحقَّ لا يرتابُ فيه   ***   ويعدلُ في العدى والأقربينا

وليسَ بكاتمٍ علماً لديه   ***   ولم يُخلق من ‌المتجبّرينا

كأن الناسَ إذ فقدوا علياً   ***   نعامٌ حارَ في بلدٍ سنينا

فلا تشمتْ معاوية بن حربٍ   ***   فإن بقيةَ الخلفاءِ فينا

وأجمعنا الأمارة عن تراضٍ   ***   إلى ابن نبينا وإلى أخينا

فلا نعطي زمامَ الأمرِ فينا   ***   سواهُ الدهرَ آخر ما بقينا

وإن سراتنا وذوي حِجانا   ***   تواصوا أن نجيبَ إذا دعينا

بكل مهندٍ عضبٍ وجردٍ   ***   عليهن الكماة مسومينا

 

محمد طاهر الصفار