الحلقة الثانية


ترسّمت أم سلمة خطوات زوجها العظيم وسارت على النهج الذي رسمه لها ولم تحد عنه طرفة عين فتمسكت بعترة النبي (ص) واهتدت بهداهم فوقفت إلى جانب الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) حين طالبت بفدك فبعد أن خطبت الزهراء (ع) خطبتها التاريخية العظيمة في ذلك اليوم وأبى القوم إلاّ أن يمنعوها إرثها ويردّوا شهادتها بحجة (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث)، أطلّت أم سلمة لتلقي كلمتها التي سجّلها التاريخ في موقف عظيم دون أن تحسب لغضب أحد حساباً سوى الله وقالت كلمة الحق فخاطبت القوم قائلة:
(ألمثل فاطمة يُقال هذا؟ وهي والله الحوراء بين الإنس، والأنس للنفس رُبيت في حجور الأنبياء وتناولتها أيدي الملائكة ونمت في المغارس الطاهرات، نشأت خير منشأ، وربيت خير مربّى، أتزعمون أن رسول الله (ص) حرّم عليها ميراثه ولم يعُلمها؟ وقد قال الله تعالى:[وأنذر عشيرتك الأقربين] فأنذرها وجاءت تطلبه، وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبّان، وعديلة ابنة عمران، وحليلة ليث الأقران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ فيوسّدها يمينه ويدثرها شماله رويداً فرسول الله (ص) بمرأى لأعينكم وعلى الله تردون فواها لكم وسوف تعلمون).
ما أروعك أيتها السيدة العظيمة الجليلة وأنت تصدحين بالحق ولا تخافين في الله لومة لائم، وما أجلّك وأنت تزدادين تمسّكاً بالإسلام بالتزام نصرة أهل البيت (ع) رغم كثرة القوم وقلة الناصر، وكما تحمّلت أم سلمة الأذى من قريش في بدء الدعوة فقد عاداها القوم كرة أخرى فكان جزاؤها على نطقها بكلمة الحق منعها من العطاء سنة كاملة.
كان لأم سلمة مقام كبير في نصرة أمير المؤمنين (ع) والدفاع عنه، وقد حاولت جهدها لصدِّ عائشة عن سفرها إلى البصرة لقتال أمير المؤمنين وذكّرتها بأحاديث الرسول (ص) في حق علي وجرت بينهما محاورات طويلة يطول شرحها، وبعد أن يئست من إرجاعها عن عزمها في الخروج أرسلت ابنها عمر بن أبي سلمة ليكون جندياً في جيش أمير المؤمنين وأرسلت معه كتاب تقول في خاتمته: (ولولا ما نهانا الله عنه من الخروج وأمرنا به من لزوم البيت لم أدع الخروج إليك والنصرة لك ولكني باعثة نحوك ابني عدل نفسي عمر بن أبي سلمة فاستوصِ به يا أمير المؤمنين خيراً).
وقد شهد عمر حروب الإمام أمير المؤمنين كلها وأبلى بلاءً عظيماً في جهاده مع إمامه وبالمقابل فقد تبوّأت أم سلمة منزلة كبيرة عند أهل البيت (ع) فقد روى الكليني عن الإمام الصادق (ع): إن علياً (ع) حين سار إلى الكوفة استودع أم سلمة كتبه والوصية فلما رجع الحسن (ع) دفعتها إليه. وفي هذا الحديث وحده دلالة على مكانتها عندهم كما استأمنها الحسين (ع) الكتب والوصية عندما سار إلى العراق فلما رجع علي بن الحسين دفعتها إليه, ولجلالة قدرها عند أهل البيت فقد كان كل من أراد الخروج من المدينة منهم يزورها لوداعها فزارها أمير المؤمنين في سفره إلى العراق كما زارها الإمام الحسين (ع) عند خروجه من المدينة.
امتد العمر بهذه السيدة الجليلة لتكون آخر من مات من أمهات المؤمنين، وقد تسالم الرواة إنه لما أراد الإمام الحسين (ع) الخروج إلى العراق أتته أم سلمة فقالت: يا بني لا تحزن بخروجك لى العراق فإني سمعت جدك (ص) يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض يقال لها كربلاء... الى آخر خبر والقارورة التي فيها التراب
توفيت أم سلمة بعد مقتل الحسين، ومن المعروف إن واقعة كربلاء كانت عام (61هـ)، وأما إن طال بها العمر بعد مقتل الحسين (ع) فأمر غير محقق لكن الروايات تدل على عكس ذلك فلم تلبث بعد هذه الواقعة الأليمة سوى مدة يسيرة، فقد روى الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمتها قوله: السيدة المحجّبة الطاهرة هند بنت أبي أمية بن المغيرة... وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين عُمّرت حتى بلغها مقتل الحسين الشهيد فوجمت لذلك وغُشي عليها وحزنت عليه كثيراً ولم تلبث بعده إلّا يسيراً وانتقلت إلى الله، وروى ابن أبي خثيمة: إنها توفيت سنة (62هـ) وبناءً على هذا يكون عمرها الشريف (82 سنة) ودفنت بالبقيع.

 

محمد طاهر الصفار