هي امرأة تزيّنت بزينة الإيمان، وتحلّت بعقود العقيدة، ولبست أبهى حُلل اليقين والولاء لأهل البيت (عليهم السلام)..، هي امرأة هامت بالحب الذي أمرنا به الله وتعلّقت بالمودة التي فرضها الله على كل مؤمن ومؤمنة في كتابه العزيز بقوله تعالى: (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّا المودة في القربى). فترجمت هذا الحب والولاء إلى نفائس من روح العقيدة وصاغت منه أروع معاني الإخلاص فكانت نصرتها للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) تغلب على حزنها ورثائها لزوجها الشهيد فضربت مثلاً أعلى في الصبر واليقين والإيمان والكمال.

آمنة بنت الشريد المرأة العظيمة وزوجة الرجل العظيم الصحابي الجليل الشهيد عمرو بن الحمق الخزاعي الذي كانت له مواقف مشرقة ومشرّفة في الوقوف مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواصلة مسيرة الإسلام والدفاع عن الشريعة الغرّاء بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فكان سيفاً من سيوف أمير المؤمنين في قتاله الناكثين والقاسطين والمارقين والصوت الذي صرخ بوجه معاوية فآثر الموت على حياة يسمع فيها سبَّ أمير المؤمنين من على منابر معاوية فاقتفت زوجته أثره في خطه وسارت على نهجه في تحدّي الظلم وقول كلمة الحق.

قال أمير المؤمنين وهو يدعو لزوجها عمرو: (اللَّهُمَّ نَوِّر قلبَه بالتقى، واهدِهِ إلى صراط مستقيم) فرافقت زوجها في دربه على صراطه المستقيم، ويبشر أمير المؤمنين زوجها بأنه سيمضي شهيداً على الحق وعلى ولايته فقال له: (يا عمرو إنك لمقتول بعدي، وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الإسلام. والويل لقاتلك)، فاقتدت بزوجها على المضي في الجهاد والتصدّي للأمويين ومقارعة ظلمهم وجورهم وفسادهم.

كان عمرو من أشد المعترضين على قرار معاوية بسبِّ أمير المؤمنين على المنابر وكانت له مواقف تصدّى فيها لولاة الكوفة من قبل معاوية وتصاعدت ثورة عمرو بن الحمق وتحوّلت إلى الجهاد المسلح فضُرب على رأسه ولكنه نجا منهم ثم خرج فاراً فلحقوه إلى الموصل وقتلوه وقطعوا رأسه وأرسلوه إلى معاوية.

وكان معاوية قد أمر بسجن زوجة عمرو بن الحمق آمنة بنت الشريد في دمشق بتهمة عدم البراءة من علي (عليه السلام) فبقيت في السجن لمدة سنتين فلما قتل زوجها وجيء برأسه إلى الشام أمر بإرساله إليها فرموه في حجرها وهي في السجن, فوضعت كفها على جبينه، ولثمت فمه، وقالت: (غيبتموه عني طويلاً، ثم أهديتموه اليّ قتيلاً، فأهلاً به من هدية غير قالية ولا مقلية). ثم قالت لرسول معاوية (بلّغ أيها الرسول عني معاوية ما أقول: أيتم الله ولدك وأوحش منك أهلك ولا غفر لك ذنبك, وطلب الله بدمه, وعجل الوبيل من نقمه, فقد أتى أمراً فرياً و قتل باراً تقياً فأبلغ أيها الرسول معاوية ما قلت).

فبلغ الرسول ما قالت فبعث إليها فقال لها: أنت القائلة ما قلت؟

قالت: (نعم غير ناكلة عنه ولا معتذرة منه)

فقال لها: أخرجي من بلادي..

قالت: (أفعل فو الله ما هو لي بوطن, ولا أحن فيها إلى سجن, و لقد طال بها سهري, واشتد بها عبري, وكثر فيها ديني, من غير ما قرت به عيني)

فقال عبد الله بن أبي سرح: (إنها منافقة فألحقها بزوجها)

فنظرت إليه فقالت: (يا من بين لحييه كجثمان الضفدع.. أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس ألا قلت من أنعمك خلعاً وأصفاك كساء إنما المارق المنافق من قال بغير الصواب و اتخذ العباد كالأرباب فأنزل كفره في الكتاب)

فأومئ معاوية إلى الحاجب بإخراجها, فقالت: (وا عجباه من ابن هند يشير إليَّ ببنانه و يمنعني نوافذ لسانه أما والله لأبقرنه بكلام عتيد كنواقد الحديد أو ما أنا بآمنة بنت الشريد) فأخرست هذه المرأة المؤمنة معاوية بصلابتها ويقينها.

وذكر المؤرخ الكبير السيد هاشم معروف الحسني في كتابه (الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ (ص307): (إنه ـ أي معاوية ـ أمر بقتلها وكانت أول امرأة قتلت في الإسلام بعد أن عرض عليها البراءة من علي (عليه السلام) فامتنعت عليه وتبرّأت منه ومن جلاديه ومن يحابيه بفعل أو قول).

ثم يقول في (ص308) من نفس الكتاب: (وغير بعيد على ابن هند أن يقتل امرأة لأنها لم تتبرأ من علي ودين علي كما قتل غيرها من أعيان المسلمين وصحابة الرسول لهذا السبب وهم لا يملكون سلاحاً غير سلاح الإيمان الذي كان يعمر قلوبهم وبه وحده وقفوا تلك المواقف الخالدة يجاهدون به من ضلّ عن الحق وتخبّط في متاهات الباطل والظلم والطغيان.

وهل يملك معاوية من الدين والقيم والرحمة ما يمنعه من قتل امرأة مسلمة لأنها لم تلعن علياً وتتبرّأ من دينه دين محمد بن عبد الله وقد أمر جلاديه بنقلها من بيتها في الكوفة إلى سجونه المظلمة في دمشق.

وأي فرق بين قتلها بالسيف وبين وضعها مكبّلة في سجون دمشق ليفاجئها برأس زوجها الصحابي الجليل ابن الثمانين سنة بعد أن طاف به في البلدان, وقد اقتدى به ولده يزيد من بعده فطاف برأس الحسين ونسائه في البلدان وانتهى به المطاف ليضعه في قصر الحمراء بين يديه وينكث ثناياه بمخصرته بحضور نسائه وشقيقاته وأطفاله)

لقد تجرّد معاوية من أدنى صفات الإنسانية وانسلخ عن كل القيم الإسلامية بفعلته هذه ولا غرابة على من نشأ بؤرة الغدر والجبن والخسة والنذالة فملأت بوائقه ومخازيه صحائف التأريخ أن يرتكب هذه الجريمة. 

إن الإنسان الشريف لا يجرؤ على إيذاء امرأة فضلاً عن سجنها لسنتين وقتلها فقد كانت العرب تعيّر من يضرب امرأة في عقب عقبه كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لجنده:

(لاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَلاَ تُصيِبُوا مُعْوِراً، وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيح ،لاَ تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ، .....  إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفِهْرِ أَوِالْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ.)

 

محمد طاهر الصفار