ماج النهر كعادته واستوى في تموجاته الرقيقة ساكنا هادئا بعدما غربت شمس نهار ذلك اليوم الفجيع، انطفأت الشمس بعدما هالها منظر الأجساد التي ارتمت في النهر فجأة ودون سابق انذار، ودار بعض أسى من حوار:

الشمس: ما عهدتك غادرا إلى هذا الحد، لقد استأمنوك وركبوا متنك، وهم يأملون أن يتمتعوا بصحبتك فمالك لم تحفظ الوديعة؟

النهر: ليس ذنبي أيتها الشمس المعطاءة، انه الجشع هو الذي الم بكل هذه الأجساد في جوفي بغتة ، انه الإهمال سيدتي، انه اللا مسؤولية ولا نظام

الشمس: أأبتلعتهم كلهم ؟

جميعهم أيها الغدار!!

لقد شاهدت مناظر مروعة، أفلم ترأف لحالهم وضعفهم وهم في نزعهم الأخير!! 

النهر: ماذا أقول وبماذا اكفر عن نفسي، إلا إن قسم بان حزني أصبح بمقدار حجمي واتساعي في المد.

الشمس : رأيت فيما رأيت صغارا كمم الخوف أفواههم، وكادت عيونهم تقتلع من محاجرها وهم يستقبلون الموت بكل قسوة.

رأيت نساء يبحثن عن أطفالهن في الماء حتى انشغلن عن أنفسهن، وصراخهن يترامى في المدى بأسماء الصغار في أخر رمق.

ورأيت فتاة جميلة تدلى شعرها المبتل على وجهها وهي تصرخ باسم خطيبها الذي ينتظرها على الضفة الأخرى، الا إن الانتظار سيطول...

ورأيت طفلا معلقا بجثة امرأة حملتها الأمواج بعيدا، قد كان الماء يملأ فمه، لكنه تشبث بها ظنا بأنها أمه، وهل هنالك اشد وثاقا من ذلك الوثاق الذي أردى بهم إلى الموت؟!

يا لوعة القلوب وزفرات الآهات وهي تلقى على سطحك المياس أيها النهر الغادر؟

النهر: لست اقل لوعة منك صدقيني أيتها الشمس ؟

لكن لم يكن في اليد حيلة وأنا ارمق عشرات الأجساد تصارع الموت على جنباتي ، لشد ما اعتصرني نظراتهم الأخيرة، آهاتهم، ثم استسلامهم للموت المحقق دون حول لهم او قوة.

الشمس: فماذا فعلت إزاء كل ذلك ، لم تفعل شيئا سوى انك كنت تبتلعهم في جوفك كاسد ضاري ، متوحش أنت أيها النهر!

النهر: على مهلك أيتها الشمس ، لست كما تظنين فلطالما كنت فيض خير ومحبة وسلام للآخرين، طالما ارتع على سطحي  الكثيرين، فلم أصبهم بسوء ولم اسرق أرواحهم كما تظنين، لقد كنت احملهم على ظهري وانأ مستغرقا في المتعة والفرح، وهم كذلك بالتأكيد

الشمس : أما أسفت لوجناتهم وأنت تدغدغها بخبث قبل أن تأخذهم لجوفك!!

أما تصدع قلبك وهم تحت رحمتك ، أما هالك بكاءهم .. توسلهم ..رجاءهم رخاتهم ؟

النهر: بالله عليك أيتها الشمس كفي عن لومي وتأنيبي، لقد قطعت نياط قلبي فما برحت تلك الصور عن خيالي، وها أنت تعيدينها الحين.

الشمس : لو هدأت أمواجك، لو سكنت لحظتها، ربما كانت فرصتهم للنجاة اكبر، إلا انك اضطربت وبطشت بهم بكل صولة وجبروت.

النهر: لن ابرر أكثر لك، إلا إني لمست من خلال حشد الأجساد المرمية  في جوفي، جشاعة بني الإنسان وهو يتاجر بأبناء جلدته دون أي اعتبار؟

أي إنسانية لديه وهو يغامر بتلك العشرات من الأرواح البريئة بغية نيل المال ليس إلا ؟!

لقد سرقوا أحلام الأطفال والنساء والشباب على حد سواء من اجل حفنة دنانير وخلفوا الماسي والأحزان التي لم ولن تندمل.

ناهيك عن الإدارة السيئة التي التزمها متعهدي المرفأ ، كان الأولى لهم أن يمنعوا حصول هذه الكارثة، وان يتصدون لها بما أتوا من قوة ، إلا ان النفوس شحت وأبت إلا التغافل والصمت الجبان

عزيزتي.. ايتها الشمس  لقد طغى حب الدينار والدرهم على نفوس الناس، وانقشعت عنهم القيم الأصيلة ، لقد صار الإنسان أبشع من كل وحوش البرية ، لن أطيل أكثر، ولكنك كما تغمرينا بنورك الأخاذ بعد ظلام الليل الحالك ، فلقد بانت لي تلك الحقيقة المؤسفة  ناصعة واضحة للعيان بعد سوداوية النفوس وعتمتها.

الشمس: سؤال أخير ايها النهر ؟

قيل إن هنالك أجساد ما زالت محشورة لديك ، كن نبيلا هذه المرة وأزفرهم من جوفك، فقلوب أحبائهم تتلظى لوعة، وأقصى آمالهم رغبة إيصالهم إلى مثواهم الأخير.

النهر: أعدك بذلك وذلك أخر الغيث، لكن أوصيك قبل ان تغادريني بتبرئتي من جريمة قتلهم

أنا لم اقتلهم أيتها الشمس

أنا لم اسرق أرواحهم

إنما استباحتهم القلوب الغلف، والنفوس الضعيفة، وحب الدنيا الفانية

بالله عليك ايتها الشمس وصيتي لك : أينما أشرقت انقلي لأهل الأرض أسفي، وألمي الشديد، وأحزاني.

قول لهم أن نهر دجلة ما زال يوقد شموع التأبين وقد راعه الموت الجماعي،

قولي لهم باني  نهر خير ومحبة وسلام كما عهدوني ، وخبريهم أن يكفوا عن أفعالهم المليئة بالجور، وان لا يحملوني نتائج قبح النفوس الملوثة.

أخيرا... انقلي محبتي لأهل الأرض جميعا أينما حللت وطفت في بلاد المعمورة.

 

منتهى محسن