أول روح تعرج إلى بارئها متوشحة بنور الإسلام, لترف في جنان الخلد, وتحظى بما أوعدها ربها من النعيم الذي لا يفنى, ومقام الشرف التي لا يزول, بعد أن لبّت نداء الله, وتدرعت بالعقيدة, وتسلّحت باليقين, فنالت الكرامة الأبدية بالفوز بالشهادة, فمثلت الشهيدة, وزوجة الشهيد, وأم الشهيد سمية بنت خباط قمة معاني الصبر والإيمان, حتى نالت وسام شرف ((أول شهيدة في الإسلام)).

جاء ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس العنسي مع أخويه الحارث ومالك من اليمن إلى مكة للبحث عن أخيهم عبد الله, فرجع الحارث ومالك إلى اليمن وبقي ياسر في مكة, ولأن ارستقراطية قريش لا ترحم الضعيف والمسكين, فقد تحالف ياسر مع أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ليحميه إن تعرّض له أحد القرشيين بأذى, وكانت سمية بنت خباط خادمة لأبي حذيفة فزوجها من حليفه ياسر فأنجبت منه عماراً, فأعتقه أبو حذيفة وولدت له أيضاً عبد الله الذي عُذّب مع أسرته حتى لحِق بأمه وأبيه, والحريث الذي مات قبل البعثة الشريفة, وقيل إن عبد الله هو شقيق ياسر.

كان ياسر عربياً قحطانياً من مذحج, وهي بطن من بطون عنس في اليمن, ولما أشرق نور الإسلام على مكة وغمر القلوب النقية كانت هذه القلوب الثلاثة قد أفعمتها الدعوة المباركة فأعلنت إسلامها, بعد أن وجدت فيه الأمل الذي ينتصف للضعيف من القوي وينتصر للمظلوم على الظالم.

كان أبو حذيفة قد مات عندما أعلن آل ياسر إسلامهم فأصبحوا بدون محام, فلا أحد يحميهم الآن من كفار قريش, وثارت ثائرة أبي جهل وهو يرى إن هؤلاء الضعفاء قد تحدّوا طغيان قريش وجبروتها, وكانوا من أوائل من آمنوا بدعوة رسول الله (ص) وأظهروا إيمانهم وجهروا به, فصب عليهم ألوان العذاب, وشاركته قريش في تعذيبهم فكانوا يلبسونهم دروع الحديد, ويشدونهم بجذوع النخل تحت الشمس اللاهبة, فتصهر أجسامهم, لكي يتركوا دين الله!! لكن هذه القلوب التي مُلئت إيماناً كانت تستهين بكل هذا التعذيب, بل زادهم إيماناً على إيمانهم

وطال العذاب على سمية, وكان صبرها أقوى, فلم يتزعزع إيمانها وهي تتلقى سياط قريش بجسدها النحيل, فتجد البلسم في ذلك بشارة الرسول لها ولزوجها وابنها بالجنة (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة), فيزداد صبرها ويقينها, وكان أشد الناس تعذيباً لهم هو عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي الذي كان يُكنى بأبي الحكم وهو من أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم أذى لهم وقد لقبه الرسول بأبي جهل لعداوته للمسلمين ولقتله سمية.

ويبلغ سخط قريش أوجّه أمام هذا الثبات والصلابة, ويجنّ جنون أبي جهل وقد آيس من ترك سمية دين الله, والرجوع إلى عبادة الأصنام, فيطعنها بحربة كانت فيها نهايتها, فتلفظ أنفاسها الأخيرة وكلمة الشهادة على شفتيها, وكان استشهادها قبل الهجرة الشريفة بسبع سنوات

لقد بلغت السفالة بأبي جهل وكفار قريش أن يقتلوا النساء الضعيفات, وكان هذا الشيء هو منتهى الغباء والجبن والدناءة  فكانت تلك وصمة عارٍ لازمت أبا جهل في حياته وبعد مماته, وسيبقى اسمه ملطخاً بالعار, وقد انتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة فقد قُتل هذا الجبان في معركة بدر وبشّر رسول الله ابنها عماراً فقال له (ص) : قتل الله قاتل أمك .

لقد انتصرت سمية رغم ضعفها على قريش رغم قوتهم وبطشهم وجبروتهم, لقد نالت الخلود ولا يزال اسمها يبعث أسمى آيات الجلال في النفوس, لقد لقّنتهم درساً في الإنسانية, فهذه المرأة الضعيفة العجوز المملوكة لم تكن تملك من متاع الدنيا شيئاً مما يملكونه من الأموال الطائلة والجاه, ولكنها كانت تملك ما هو أنفس من ذلك بكثير, كانت تملك قلباً مفعماً بالإيمان, وروحاً راسخة بالصبر واليقين, لقد وهبها الإسلام معنى الإنسانية, وألهمها الرسول روح الصبر والصمود والمقاومة من أجل أن يعم الخير والسلام والمساواة في الأرض

محمد طاهر الصفار