الحلقة الثالثة

سادت القصر أجواء الحزن الممتزج بالخوف في تلك الليلة ودبَّ الرعب واليأس قلوب ساكنيه وعمّ الصمت في هدأة الليل إلا من همس وهمهمة بعض الخدم ثمَّ غطّ الباقون في سبات عميق جرّاء التعب الذي أصابهم والجهد الذي بذلوه في إقامة مراسيم الزواج وتلبية احتياجات الحضور.

ونامت مليكة وهي لا تدري ما ينتظرها في المستقبل ؟ نامت بعد أن أرهقها التفكير في مصيرها, كانت تشعر أن أمراً عظيماً ينتظرها وإن الله لم يكن يريد لهذا الزواج أن يتمّ من أجل هذا الأمر عظيم ولكنها لم تكن تعرف ما هو هذا الأمر ؟ وفجأة فزّت من منامها كمن يستيقظ من غيبوبة ثم غرقت في تفكير عميق !! أيمكن أن تكون هذه الرؤيا التي رأتها في منامها هي الخيط الأول لهذا الأمر والذي يتضح بعده الفجر؟

رأت في منامها المسيح (عليه السلام) ومعه شمعون ومجموعة من الحواريين وهم مجتمعون في القصر وقد أقاموا منبراً أعلى من عرش العرس الذي أقامه جدّها لزواجها وفي نفس موضع العرش وفيما هم منهمكون بحديث لم تعرف مفاده إذ دخل عليهم رجلٌ على وجهه سيماء الأنبياء ووجهه مفعم بالنور وهو يتقدّم نحو المسيح وخلفه كان يمشي اثنا عشر رجلاً كأنهم الأقمار وقد أحاطت بالشمس !! وقد عرفت فيما بعد إن الرجل كان خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله) ومعه أهل بيته فقام إليهم المسيح واستقبلهم وعانقهم وكذلك الحواريون فقال النبي محمد للمسيح: يا روح الله إنّي جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). فالتفت عيسى إلى شمعون وقال له: قد أتاك الشرف العظيم، فصِل رحمك برحم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فتبسّم شمعون ووافق على الفور فلما سمع النبي محمد موافقة شمعون صعد المنبر وزوّج مليكة للإمام (عليه السلام) وشهد على هذا الزواج المسيح وآل محمد والحواريون.

استيقظت مليكة وقلبها يخفق بشدّة لهذه الرؤيا وقررت كتمانها عن الجميع وأن تبقى سراً في صدرها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا فقد خشيت من جدّها الذي كان يخوض دائرة حروب مع المسلمين أن يعمد إلى اتخاذ قرار ضدها فكتمت ذلك في قلبها بانتظار أمر الله.

مليكة تطلق أسرى المسلمين

كانت مليكة تسترجع هذه الرؤيا طويلاً وهي تتأمّل في مخيلتها الوجوه المشرقة التي رأتها فيها وخاصة وجه النبي محمد والنور الذي يشع منه فهامت بحبه وحب أهل بيته حتى امتنعت عن الطعام والشراب، وضعف جسدها، ونحل جسمها، ومرضت مرضاً شديداً، فاستدعى لها جدّها أمهر الأطباء من مدائن الروم ولكن داءها أعياهم ولم يجدوا لها علاجاً فحزن لذلك كثيراً وسألها عما تحتاجه وتتمنّاه فقالت له وكأنها تمهّد لما تريد قوله: يا جدّي أرى أبواب الفرج عليّ مغلقة، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال، وتصدّقت عليهم، ومننتهم بالخلاص، لرجوت أن يهبّ المسيح واُمّه (عليهما السلام) لي عافية وشفاءً.

فاستجاب الملك لطلبها فأطلق سراح الأسرى المسلمين من سجونه وهو يرجو من المسيح وأمه أن يتقبلا عمله ويستجيبا لدعائه فجهدت مليكة على إظهار الصحة في بدنها، وتناولت يسيراً من الطعام، ففرح جدها بما رآه من حيويتها فأكرم الأسرى وأعزهم.

إسلامها

بعد أربع ليالٍ من تلك الليلة التي رأت فيها النبي وهو يخطبها من شمعون لولده الإمام الحسن العسكري كانت مليكة على موعد مع رؤيا أخرى حيث تشرّفت برؤية سيدة نساء العالمين ابنة النبي محمد الصديقة فاطمة الزهراء ومعها السيدة مريم بنت عمران (عليهما السلام) ومعهما ألف وصيفة من وصائف الجنان فهالها ما رأت ولكن السيدة العذراء طمأنتها وبشرتها فقالت لها: هذه سيدة نساء العالمين، واُمّ زوجك الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فتعلقت مليكة ببنت المصطفى وأحبتها وبكت من فرحتها لهذا الشرف الذي أحاطها الله به فعرضت عليها الزهراء (سلام الله عليها) الإسلام فوجدت مليكة قلبها يتلهف لكلمة التوحيد التي وجدتها أحلى من الشهد فقالت على الفور: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله وما إن أعلنت مليكة إسلامها حتى عانقتها سيدة النساء وضمتها إلى صدرها وبشرتها بلقاء الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).

كانت هذه الرؤية والتي قبلها تمهيداً للقاء مليكة بالإمام لتنفيذ إرادة الله بولادة بقيته في أرضه, ففي الليلة التالية رأت في منامها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فأخبرها عن كيفية قدومها إليه فقال لها: (إنّ جدّك سيرسل جيوشاً إلى قتال المسلمين، ثم يتبعهم هو، فعليك اللحاق بهم متنكّرة في زِيِّ الخدم مع عدّة من الوصائف لتقعي في الأسر) وعيَّن (عليه السلام) لها الزمان الذي تخرج فيه والطريق الذي تسلكه ففعلت ما طلب منها الإمام ووقعت في أسر جيش المسلمين ولما سألها الرجل الذي كانت حصته من الغنائم عن اسمها قالت له: نرجس...

محمد طاهر الصفار