الحلقة الثانية

عندما بلغت السيدة نرجس الثالثة عشر من عمرها أراد جدُّها قيصر الروم أن يزوّجها من ابن أخيه ــ أي ابن عمها ــ وقد أعدّ لهذا الزواج إعداداً كاملاً وانتشر خبره في المملكة وبقيَ الجميع يترقّب هذا اليوم, وفي اليوم الذي خُصِّص له حضر حفل الزواج ثلاثمائة رجل من القسيسين والرهبان من نسل الحواريين وسبعمائة رجل من ذوي الأخطار, كما حضر أربعة آلاف رجل من اُمراء الأجناد وقوّاد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر, ووسط هذا الحضور الكبير الذي ضمَّ أعيان وكبار وقادة وأمراء الإمبراطورية أقيم عرش الزواج المزيّن بأفخر أنواع الجواهر وأنفس المصوغات وكان الجميع ينظر إلى هذا العرش وهو مندهش لروعته وجماله ونفاسة ما زُيِّن به من الأحجار الكريمة وقد توسّط قاعة القصر وشخُص عالياً بينهم وبدا كأجمل ما يكون بعد أن تفنّن صانعوه في صنعه فبلغ أربعين مرقاة وظلّ الحضور يترقبون ابن أخ الملك لكي يعتليه !!

وجاء ابن أخ القيصر تحفّه الأساقفة وبيدهم الصلبان وهم يرتِّلون أسفار الإنجيل وما إن وصلوا عند العرش حتى تركهم عاكفين على التلاوة وصعد وحده, وفيما هيمنت هذه الأجواء على النفوس والعيون وبقي الحاضرون ينظرون بعين الرهبة إلى هذا المشهد وهم محدقون بالعرش إذ حدث ما لم يكن بالحسبان!

حدث ذلك فجأة وفي بضع لحظاتٍ كانت كافية لبثّ الرعب في أعين الحاضرين ففغرت الأفواه من الهلع وخفقت القلوب من الرعب!!

فما إن صعد ابن أخ الملك على العرش لكي تتمّ مراسيم الزواج وساد الصمت المغلف بالفرح والبهجة وسط هذه الأجواء المبهرة للجميع وخاصة الملك الذي كانت فرحته غامرة في تلك اللحظة, حتى تساقطت الصُلبان وأحدثت دويّاً مروعاً وسط القصر وتقوّضت الأعمدة وانهارت تِباعاً على الأرض وسقط ابن أخ القيصر على الأرض مغشيّاً عليه!!

أصيب الأساقفة برعب شديد وتغيّرت ملامحهم وارتسم الخوف والفَرَق في أعينهم وارتعدت فرائصهم ولم يكن حتى باستطاعتهم الكلام, فالخوف والذهول الذي ساد القصر كان كفيلاً بإيضاح ما يشعرون به..

أما الملك فلم يكن حاله بأفضل حالاً منهم فقد وجِم من الحزن والأسى وتشاءم من هذا اليوم وارتعب من هذا الموقف الذي أحسّ بأنه أنذره بزوال ملكه ولكنه ظلّ صامتاً وعلامات الاستياء بادية على وجهه.. وراح يهزّ رأسه كأنه يحدث نفسه: أيمكن أن تكون مؤامرة ؟؟ لا.. لا لا يمكن هذا فالمشهد واضح وليس هناك أي شيء يدل على مؤامرة !!

إن هذا الشعور الذي يراود الملوك في مثل هذه الحالات ليس جديداً حيث تغلب نزعة الملك والإحساس بالقدرة والسلطان على كل شعور لديهم فيظنون إن الأرض كلها طوع أيديهم وليس هناك سلطة أكبر من سلطتهم أو سلطاناً فوق سلطانهم وينسون قدرة الله وسلطانه !!

أفاق الملك من ذهوله وتفكيره فجأة على صوت جاء من جهة الأساقفة: أيها الملك، اُعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني ... كان صوت كبيرهم!! ولكن القيصر لم ييأس بل ردّ على هذا الصوت سريعاً:

ــ بل أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان واتركوا أبن أخي ذا الحظ العاثر هذا المنكوس جدّه وأحضروا أخاه لأزوّج منه هذه الصبيّة فيدفع نحوسه عنكم بسعوده.

راود الملك شعور بأنه ربما أن هذا الحفيد الشاب لا يليق بحفيدته وهناك من هو أجدر منه وهو أخوه فأمر بتزويجه منها فالأمر سيّان لديه, فأيٌّ من هذين الأخوين يحظى بهذا الزواج يبقى نسل الملك محافظاً على الدم النبيل كما هو سائد في ذلك الوقت ولكن الأمور لم تكن كما يريد الملك أيضاً في المرة الثانية!!

في اليوم الثاني فعلوا كما في اليوم الأول ولكن الحظ العاثر رافق المرشّح الثاني للزواج من مليكة وحدث ما حدث في اليوم السابق تماماً، فتفرّق الحضور واغتم القيصر لذلك كثيراً ودخل قصره، واُرخيت الستور وأسدلت مظاهر الفرح.. لقد أراد الله غير ما أراد القيصر وليس فوق إرادة الله إرادة...

محمد طاهر الصفار