قلقةٌ تلك الجفون الصغيرة خلف الأحلام، تتحرك بصورة عشوائية فوق أحداقها المغلقة، المستديرة مثل كرتها المنزوية في ركن الغرفة، فالليل هو فترة استراحة ألعابها ما خلا لعبتها المفضلة (ياسمين) هكذا أسمتها .. لا تنفك تهتم بها ليل نهار كأمٍ حنون .

بقيتُ جالسةً أتفرس وجهها الصغير تحت انعكاس المصباح الليلي الغافي على الجانب الأيمن لسريرها، وأصابعي تهمس لها بحكاية ما قبل النوم وهي تدور بتأنٍ بين خصلات شعرها، بيد أن النعاس لا يمهلها نصيباً في معرفة نهايتها فدوماً ما يطبق على أهدابها قبل أن أختم لها قصصها المفضلة، فهي لم تعرف يوماً أن (الس) ستعود الى أمها بعد رحلتها الطويلة في بلاد العجائب، ولم تعلم أيضاً أن أميرة الثلج ستفيق من غفوتها لتعيش بسعادة وهناء، لذا كانت في كل صباحٍ يلي حكاية ناقصة تأتي مسرعة   

لتسألني : ماذا حدث في نهاية القصة لأميرة الثلج يا أمي ؟ وهل عادت ألس إلى والدتها أخيراً ؟؟ وتظل تسأل .. وتسأل ..

بابتسامة مخادعة اجيبها : سيغضب القمر إن علمَ أننا نخدعه ونسرد حكاياته للشمس في وضح النهار، أنسيتي أن القمر يشاركنا الأحلام والحكايات .

منهمكةً في أعمال المنزل لكني أختلس النظر لأتابع دهشتها وذهولها وهي تصدق كل ما أخبرها من خدع لا يصدقها سوى الأطفال، فتفتح عينيها العسليتين الواسعتين باندهاش رائع، وكذلك عندما تكذب ببراءة وأخبرها أن بإمكان الأم معرفة صدق اطفالها من خلال النظر الى احداقهم لأن تلك النظرة تكون كافية لتريها الحقيقة بوضوح ما أسعد تلك اللحظات التي كانت تسرقني لأظل أسيرة براءتها دقائق طويلة، وهي تقف أمامي تحمل ابنتها (كما تطلق على لعبتها) بيديها الناعمتين وترتدي ثياب نومها الزهرية ذات الأكمام الطويلة المليئة بالرسوم والدببة الصغيرة

هذه المرة أيضاً سرقتها أحلامها من أنصاف الحكايات، أجلس بالقرب منها ولا اكف عن النظر اليها، كانت نائمة كملاك يزين عتمة الليل، تارةً تحرك جفنيها بسرعة فيخيل إلي أنها تخفي خلفهما فراشة راقصة تحمل على اجنحتها ابتسامةٌ رقيقة فأتذكر كلام جدتي عندما أخبرتني بأن الملائكة  تحب الأطفال حيث تتسلل إلى عالم أحلامهم لتلاعبهم وتداعب براءتهم، وتارة أخرى أجدها تقطب جبينها وتحرك جفنيها بحركات مرتبكة كغزالٍ محاصر من قطيع اسود، فأتساءل وأنا أداعب وجهها بأنامل القلق من يمكنه أن يؤذي تلك البراءة المغموسة في طفولتها!

سارعت أنشد لها أنشودة دافئة الأنغام لأطرد عنها كوابيسها الصغيرة، وبينما أنا كذلك صحوت من غفوتي الجميلة تلك، لأجد نفسي وحيدةً في فراشها، لا أضمها إلي بل أظم لعبتها بدلاً عنها، شعرتُ بعدم الارتياح فهرعت أبحث عنها في كل ركنٍ وزاوية وأنا انادي بصوت متقطع مرتبك ( فرح .. فرح .. أين أنتِ طفلتي) .

لكنني لم أجدها .. ولم يرتد إليَ سوى صدى خوفي الذي جاء بعده صوت زوجي مسرعاً من الغرفة المجاورة، أخبرته مذعورة أنني استيقظت ولم أجد فرح في فراشها بحثتُ عنها في كل مكان ولم أجدها .

بدا لي كأنه لم يسمع ما قلت أو ربما تجاهل كلامي .. وراح يحاول تهدئتي ويعاملني كما المجنونة وهي تعاني أسوأ نوباتها، كان منظرهُ محيراً وهو يقف أمامي بارتباك يختلجهُ حزن عميق، كنت أنا فقط محور اهتمامه في تلك اللحظات ولم يعقب على غياب فرح حتى إنهُ لم يتفاجأ بالأمر ولم يتكبد عناء البحث عنها وكأن غيابها أمرٌ طبيعي، جُلَ ما فعلهُ هو اقناعي بتناول حبة الدواء التي كان يحملها على راحة يده  من المفترض أنها علاجي المعتاد، فهل أنا مجنونة حقاً ؟ هذا ما قرأته في عينيه حينها .

لبرهة استسلمت وشعرتُ أن في هذه الحبة خلاصي، خاصة وأنا أراه لا يردد سوى جملةً واحدة بنبرة حذرة : خذي هذه الحبة وسوف ترتاحين .

يداه كانتا ترتجفان أكثر من قلبي وهو يقدم لي الدواء،  وولدي  يقف أمامي متسمراً دون حراك كنسخةً مصغرةً عن والده المرتبك في تلك اللحظات المجنونة .

لم أفهم شيئاً .. فلا أحد يأبه لغيابها سواي !

أخذت حبة الدواء باستسلام مطبق وجلست اتوكأ بكلتا يداي على أريكة طويلة تستند إلى أحد أضلاع الغرفة، وما إن سرى الدواء في عروقي حتى سلمتُ لما أنكره قلبي وبدأت الذكريات المؤلمة تتسارع متجهةً نحوي، وانا كما أنا أقابلها بأنفاسٍ مثقلة ودموعٍ تسيل بصمت لتحفر في طريقها آلاف الكلمات، بدأتُ استرجع ذكريات تلك الظهيرة المغبرة من ذلك اليوم المشؤوم، كنتُ في طريق العودة الى المنزل بعد أن أنهيت عملي كمدرسة للغة الانكليزية في مدرسةٍ تقع على مقربةٍ منه .

عندما استقبلني أحمد وهو يجلس على عتبة الدار ودموعه تتسابق على وجنتيه .

أقلقني منظره فسألته بخوف جارف : 

_ لم تجلس هكذا ..  وأين أختكَ الصغيرة بني ؟؟!!

رد بصوتٍ تخنقه العبرة

_ أمي ... لقد تركتُ فرح تلعب بدميتها وخرجت لأشتري دفتراً كما طلب منا معلم الرياضيات، لم أتأخر عليها فقد ذهبتُ إلى الأسواق القريبة في ناصية الشارع وعدت مسرعاً فإذا بمنزلنا مقلوباً رأساً على عقب  وكل الأغراض متناثرة وفرح غير موجودة  يا أمي ... لم أجدها .

ذهلت ولم أستوعب قوله وظل صدى كلماته يخترق أذني كصفير يكاد يفقدني سمعي وربما شعر أحمد بوقع الصدمة علي فتكفل بمهمة أخبار والده بفاجعتنا ليعود مسرعاً من عمله في غضون أقل من ساعة وهو يجر خلفهُ سرب العائلة الطويل .. أهلينا وحتى أصدقائه المقربين، فمنذ أن أخبرهُ أحمد بالحادثة صار يتصل بكل من نعرفهُ وكأنه كان بحاجة لوجود قلوب تشاركنا المصاب وتواسينا على أليم فقدنا، وربما ظنَ واهماً أنهم قد يجدوا  قشة الحل بين أكوام المستحيل .

لم أكن أرى أحداً أمامي رغم اكتظاظ منزلنا بالمحبين والمواسين، لكأنه مجلس عزاء نُصِبَ قبل أوانه، صرتُ أدور كالمجنونة افتش بين الزوايا وتحت الأشياء الصغيرة المرماة على الأرض، وكأنني أبحث عن خاتم زواجي المفقود أو عن قطعة صغيرة غارت بين الكثير من الأشياء، لا أريد التصديق .. قلبي ينكر الحقيقة ويستهجن ما تراه عيناي، هل حقاً ما حصل ؟! هل رحلت فرح وأضحت قصة كبقية القصص التي كنتُ أسمعها من أفواه الواقع؟ غابت هكذا ببساطة  كما الأطفال الذين أفلوا خلف المغيب .

 

اتعبني دوار الأفكار، فانكفأت أبكي على دميتها ونعليها المرميان في منتصف حديقة الدار، واللذين سقطن منها وهم يحملونها عنوة بعيداً عن أحضان أمومتي، من هم ولما خطفوا طفلتي، أخمنُ (هم) لأنني أفترض أنهم عصابة من عصابات هذه الأيام ممن يسرقون البسمة من خلف الجدران ويرمون بها بعيداً في أكياس القمامة .

فمن المعقول جداً أن يرن جرس المنزل فأهم لأفتح فلا أرى ضيفاً ينتظر خلفه بل كيساً مرمياً على عتبة الدار، كبريد من مجهول .. ومعقول أيضاً في أيامٍ كأيامنا هذه أن أفتح الكيس فأجد رأسها الصغير مرسلٌ كهديةٍ زُفَتْ لي من الموت .

يا اللهي .. كلا لا زالت حية وستعود إن شاء الله، وإلا سأجن كما جنت جارتنا المسكينة أم مصطفى عندما رن جرس الموت ذات صباح ليهدي لها كيساً يحتضن رأس ولدها الوحيد، الأفكار المؤلمة بدأت تتشابك وتتخبط في رأسي وانا بينها أبحث عن بصيص أمل اطمئن به نفسي، فلعل هدفهم النقود لا غير وربما سيتصلون بنا ليساومونا على مبلغ ما، ولكن نحن لسنا ميسوري الحال ولسنا ممن يكنزون الأموال فزوجي طبيب لا يزال في بداية مشواره، وشهرته الواسعة اكتسبها من مراعاة  حالات المجتمع المتعبة بالكشف على المرضى بأجور رمزية  أو بالمجان بحسب ما تقتضيه الحالة .

ذهبنا على الفور إلى مكتب العقارات القريب الذي  يديره جارنا (أبو حسن) دخلنا نتسابق وكأنه المُخَلِص، واخبرناه بنيتنا في بيع المنزل بأسرع وقت ممكن .

الجار بدهشة وتعاطف : ولما تبيعون المنزل أين ستذهبون وليس لكم مأوى غيره؟؟!!

لم نشرح كثيراً سوى أنه الحل الاحترازي الأمثل لوضعنا الحالي وطوق النجاة الوحيد لطفلتنا الصغيرة، لنكون على أهبة الاستعداد لمطالبهم المالية .

أما الشرطة فقد أهلكونا بالأسئلة المكررة ذاتها هل لديكم أعداء وبمن تشكون ؟؟!

_ليس لنا أعداء ولا نشك بأحد .

عبثاً ودون جدوى وضعنا أيامنا على قائمة الانتظار على أمل اتصالٍ من مجهول فتوقفت بنا عجلة الحياة حتى أننا اهملنا (أحمد) الذي اصيب بأزمةٍ نفسية صعبة  فهو صبيٌ صغير لم يكمل الثالثة عشر من عمره وما حصل كان أكبر من استيعابه ليستأثر به الذنب ويرمي به بعيداً عن شواطئ الراحة والسكينة، لقد حمل نفسه مسؤولية ما حصل لأخته ناهيكَ عن  شوقهِ اليها .

أما زوجي المسكين .. فقد بدأ يتجالد مجبراً ويدير دفة الأيام ليرسوا بنا بأقل الخسائر الممكنة، مذ أن تفاقمت مصائبه .. بنتٌ مخطوفة وزوجةٌ نصف مجنونة وابنٌ تركت  الحادثة في نفسه رواسب سيئة يجب استئصالها برعايةٍ واهتمام .

مرت عليَ الشهور وأنا أرقد على أريكة حزني لا أفارقها أبداً، غائبة المشاعر مغيبة العقل، يقتلني الحنين لأعوامها الستة وابتسامتها المتلألئة، ما زلتُ لا  أقوى على تخطي ذلك الوجع إلا بحبات المهدئ . 

"ستدفع ابنتكم ثمن غباء والدها الذي رفض معالجة أخي " هكذا جاء صوته مخيفاً ثم اسمعني بكائها ليردي على آخر نبضةٍ في قلبي .

_ارجوك أعدها الي وخذ ما تريد .. لا تؤذها  ................. قطع الخط مسرعاً ولم يترك لي إلا سلكاً بارداً خلف ضحكته الشامتة .

ذلك الهاتف اللعين وسع دائرة حزني وأدخلني دوامة أكثرُ عتمة، أسرعت أخبر زوجي ما جرى وما إن قدِم مسرعاً أمسكته ورحتُ أجر ثيابه  

_بسببك أنت، أنت قتلت طفلتنا، يقول الخاطف أنك رفضتَ معالجة أخاه لماذا يا منذر لماذا ؟!!!

أجهشت بالبكاء والمسكين منذر جلس مذهولاً يحاول تذكر ذنباً لم يقترفه أبداً، صمت بضع دقائق وهو يقلبُ أفكارهُ، حتى استحضر الموقف الغريب الذي مر به قبل ثلاثة أسابيع من حادثة الخطفِ .

كان يهم بمغادرة العيادة ليلاً كعادته بعد انتهاء طابور مرضاهُ الطويل بعد أن أذنِ لسكرتيره العم صالح بالعودةِ الى منزله، عندما دخل عليه رجلان مسلحان بهيئةٍ غريبة أحدهما ينزف والآخر طوق عنق (منذر) من الخلف بسكين كبيرة وأخذ يأمره بنبرة التهديد والوعيد كي يقطب جرح الأول، لكنه أبى أن ينصاع لهما حفاظاً على شرف المهنة والقسم الذي أقسمه منذ بدأ مهمته الإنسانية وكاد أن يقتل يومها  لولا فضل الله ولطفه بصعود حارسا الأمن اللذان شكا بهيئة الرجلان المريبة  خاصة وأنهما دخلا البناية في وقت لم يبقى من أطباءها سوى زوجي حتى تلك الساعة المتأخرة من الليل ، وانتهت الحادثة يومها بهروب الرجلان وعودة منذر سالماً الى بيته واولاده بعد أن كتبَ له عمرٌ جديد .

سرد لي ما حصل بنبرة جمعت بين الأنكار والذهول وأنا أمامه لا أنطق بغير البكاء، ها هي الأيام تمضي ولحظاتي تمر كمسرح مغلق أُسدلت ستائرهُ بغير موعدها، فلم يبقَ لي سوى همس الذكريات .

شهور وأيام وساعات مضت كأنها دهور لا أرى فيها سوى خيالات وجهها وهم يهجمون على الدار، ولا أسمع غير بكائها وصراخها وهي تستنجد بأمٍ لم تكن خلاصها في تلك اللحظات المرعبة، فطفلتي ما كانت كبيرة واعية لتتحصن بالآيات والتسبيحات، لم تكن تملك إلا صورتي التي تمثل لها الحماية والأمان، تلك الخيالات المشؤومة ظلت تطاردني كما الخيول البرية الهائجة لتدهس بقوة لحظات يقظتي ونومي لتحرمها الراحة والسكينة ما حييت .

(فرح) حتى اليوم لم تزرني إلا في أحلامي، ولم تصلني أخبارها حتى في صفحات الحوادث التي بات التفتيش في عناوينها أهم واجباتي اليومية .

لم تعد ... وها أنا الآن بعد خمسة أعوام من سلب روحي، صرتُ أعمل جاهدةً لخلق حياة شبه طبيعية متحصنة بحب الله ومتسلحةً بولاية أئمة الهدى، لكني .. ما زلتُ اشتاق لملاكي الصغير وأصدقُ حدس جنوني بأنها ستعود ذات يوم لأسرد لها نهايات قصصها ولأهدي لها ما علق بين شفتي من ملايين القبل .

 

نغم المسلماني