كم كانت دقائق الانتظار طويلة, وكم كانت الساعات عنيدة.. وكم تمادت الأيام في بطئها حتى أشعرتها إن الحياة توقفت عند تلك اللحظة التي ترك فيها قُبلتهُ على جبينها وهو يهم للمغادرة إلى أرضٍ خلت إلا من الكرامة والبطولة.

كان وسام يدرك جيدا إن الحروب لا تعرف النهايات دون أن تقنعها الدماء بالنصر أو الهزيمة؛ لكنه يدرك أيضا إن الهزيمة مفردة لا ترد في قاموس الحق لعلمه العميق بأن الشهادة حياة , كيف لا وملهمه سيد الشهداء عليه السلام روى بدمائه جدب الحياة؟ فاخضرت واينعت حتى يومنا هذا, فمازال القرآن الكريم مُصان, والدين معروف, ونور الحق يشع مهما تلبدت قلوب الغافلين بالغي.

عمر الوداع يشيخ في نفوسنا إن أيقنا بأن غائبنا لن يعود...

وسام لم يعد.. رحل إلى بارئه شهيدا.. وقُبلتهُ تلك ما زالت تترك أثرا على جبين زوجته, فكانت أشبه بالعهد بأنه سيختارها للمرة الثانية أمام الله زوجة في السماء.. فثلاثة أشهر لم تكن كافية ليتعرف فيها على الحياة الزوجية بحلوها, ومرها أحيانا... مع إنه لم يتذوق أي مرارة .. قُرابة تسعون يوما ارتشف فيها السعادة مع زوجته وأبنة عمه .. كم تمازحا وكم تجاذبا أطراف الحب...

هي مازالت تبحث عن أسم لمولودهما الأول وتبتسم في سرها حينما يُخيل لها ردة فعل وسام على الاسم أو معناه .. كانت تخشى أن يتهمها أحدا بالجنون أو اللامبالاة, مع إنها ببساطة أقنعت نفسها بأن وسام ما زال حيا.. وليتها أقنعت نفسها بوهم يزول بمرور الوقت ولكن الله جل شأنه أكد أن الشهيد لا يموت ويظل حيا عنده؛ لذا كانت تتوسل الله كل لحظة أن يسمح لوسام بزيارتها في الحلم؛ لأن الصمت أثقل صدرها المملوء بالوجع .. لِمن تبوح؟ ووسام كان نصفه أذان صاغية لكلماتها, ونصفه الآخر لسان ينساب منه شهد الكلمات..

الضربة الأولى التي تحسستها في احشائها دقت باب قلبها بقوة حتى قلعته من مكانه.. تصرخ بهدوء يشبه الصمت .. ولسان حالها.. أينه لأقول له ضع يدك حتى تشعر معي بحركات بطلنا الصغير وربما تكون فتاتك التي وعدتني إنك ستدللها كما دللتني!..

بعد شهور أنقضت قطعت فيها مسافة انتظارها الثاني؛ ولكن هذه المرة انتظار الزيارة الأولى... جاءها المخاض وهي في أسعد لحظات حلمها مع وسام.. فحينما نكون في حرم الأحلام الجميلة لا ندرك إنه ثوانٍ من تزاحم الأفكار والعواطف وإن العقل يكون في ذروة نشاطه حيث يُكَّون مجموعة من الصور المترابطة أو المبعثرة فنحيا تفاصيل بعض الأحلام وكأنها واقع.

 هكذا استقبلت الألم بفرحة اللقاء.. ساعات وهي تجلس على السرير في المستشفى استعدادا للولادة..

ما أدهش الجميع إنه لم يكن باديا عليها أي علامات للوجع. مع إن المخاض يعد ثاني أشد ألم بعد ألم الحرق..

تقدمت المشرفة على ولادتها بعدما علمت من والدتها إنها أرملة شهيد.. لم تنتظر المولود حتى تمسح على رأسه؛ مسحت على رأس مريضتها الصامتة لتقول لها بمنتهى الرأفة

- ألا تشعرين بالوجع؟!

لم يبدو على وجهها أي تعابير.. كانت سارحة في ملامح وسام.. ومتلهفة لرؤيته في وجه صغيرهما.

كررت الطبيبة عليها السؤال مرة أخرى  مع جرعة  قلق واضحة في صوتها

- من الطبيعي أن تتألمين الآن, أنتِ على وشك الولادة, لا تخجلي عبري عن ألمك بأي طريقة.

تحركت فقط شفتاها بالرد وهي على سكونها المعهود لِتُدخل كل من حولها في نوبة الصمت ذاتها!

- تألمت بما فيه الكفاية.. ما عدت أشعر بأي ألم.

فكان لصدى صوتها – صمتها ... دويا يضج في القلوب.

 

إيمان الحجيمي