تأمُلٌ في دعاء اليوم السادس عشر من شهر رمضان المبارك

(اَللّهُمَّ وَفِّقْني فيهِ لِمُوافَقَةِ الْأبرارِ، وَ جَنِّبْني فيهِ مُرافَقَةِ الأشرارِ، وَآوني فيهِ برَحمَتِكَ إلى دارِ القَرارِ بإلهيَّتِكَ يا إله العالمينَ(

 

التوفيق

التوفيق هو النصرة والإعانة من قبل الله عز وجل للعبد، وهو في مقابل الخذلان الذي يعني ترك النصرة والإعانة، وقد ذُكرت معاني كثيرة للتوفيق؛ لكن كلها تعتبر أوجه للتوفيق لا تمام المعنى، فأحياناً يكون التوفيف بسد طريق الشر، وأخرى بتسهيل طريق الخير، وأيضاً الإرشاد الى الصواب، وغيرها من وجوه التوفيق، وقد حصر القرآن الكريم التوفيق بالله عز وجل، قائلاً : (وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ)، وفي رواية الإمام الصادق عليه السلام بيان أوضح لمعنى التوفيق، فروي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾, وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ﴾ فَقَالَ عليه السلام: (إِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ مَا أَمَرَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الطَّاعَةِ كَانَ فِعْلُهُ وِفْقاً لِأَمْرِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَسُمِّيَ الْعَبْدُ بِهِ مُوَفَّقاً، وَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي شَيْ‌ءٍمِنْ مَعَاصِي الله فَحَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَتَرَكَهَا كَانَ تَرْكُهُ لَهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى خُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى يَرْتَكِبَهَا، فَقَدْ خَذَلَهُ وَلَمْ يَنْصُرْهُ وَلَمْ يُوَفِّقْهُ)[معاني الأخبار ص21].

 

فبعد معرفة معنى التوفيق ينبغي على العبد أن يبحث عن موجبات التوفيق؛ لأن العبد بلا نصرٍ وتأييد وإرشاد من الله عز وجل يكون كالفريسة تتخبطها الوحوش لا تدري أين المفر، فكذلك العبد بلا توفيق سيكون فريسة بيد الذنوب والمعاصي وإبتلائات الحياة ولا يعلم كيف يتخلص منها، كما في دعاء مكارم الاخلاق تقريب لذلك المعنى : (وَوَفِّقْنِي إِذا اشْتَكَلَتْ عَلَيَّ الاُمُورُ لاَهْداها وَإِذا تَشابَهَتِ الاَعْمالُ لأَزْكاها وَإِذا تَناقَضَتِ المِلَلُ لاَرْضاها).

من الأمور التي تسبب التوفيق كما عن أمير الؤمنين عليه السلام هي طلب النصيحة من الله عز وجل، قال عليه السلام (من استنصح الله حاز التوفيق) [غرر الحكم ج1 ص670]، أما عن كيفية طلب النصيحة فلها وجوه عديدة مباشرة وغير مباشرة كالرجوع إلى كتاب الله وروايات اهل البيت عليهم السلام والإستخارة وسؤال العالم الرباني، وأيضاً الرفق بعباد الله يسبب التوفيق للعبد، لما جاء أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام : (أرفق توّفق[غرر الحكم ج1 ص130]، كما ان المانع من التوفيق هو الذنوب والمعاصي.

 

موافقة الأبرار

تعني الملائمة والقرب كما تقول : زوجة موافقة، أي ملائمة للزوج وكفوء له، والأبرار قد أوضحنا معناه سابقاً في دعاء اليوم الثالث عشر، فيعني النبي الأعظم وأهل بيته صلوات الله عليه أجمعين، فالعبد هنا قد طلب التوفيق في القرب العملي والروحي من أهل البيت صلوات الله عليهم، أي تكون أفعاله وأقواله وأفكاره موافقة لأهل البيت عليهم السلام.

وفيما سبق عندما ذكر الأبرار ذكرهم بعبارة الصحبة، وأيضاً قد طلبت بلفظ التوفيق : (وَوَفِّقْني فيهِ لِلتُّقى وَصُحْبَةِ الاْبْرارِ)، وقد ذكرنا أن الصحبة هنا أن يكون المؤمن مع أهل البيت عليهم السلام في الآخرة، وأما الموافقة هنا فهي في دار الدنيا.

 

(وَجَنِّبْني فيهِ مُرافَقَةِ الأشرارِ)

أي باعدني فيه، والمرافقة تختلف عن الموافقة، لأنه ليس كل رفيق هو موافق، وعبارة المرافقة هنا دقيقة، فالعبد لا يطلب عدم موافقة الأشرار فحسب، بل عدم مرافقتهم أصلاً؛ لأن الأشرار هم الأشخاص الذين لا يحبون الخير فيصدر منهم القبائح والمنكرات، كما توضح رواية أمير المؤمنين عليه السلام سبب عدم مرافقة الأشرار : (صحبة الأشرار تكسب الشّرّ كالرّيح اذا مرّت بالنّتن حملت نتنا) [غرر الحكم ج1 ص420].، وهنا تكون أشد من عدوى المرض المباشر؛ وأيضاً لأن (عادة الأشرار أذيّة الرّفاق ومعاداة الأخيار)[غرر الحكم ج1 ص458].

 

(وَآوني فيهِ برَحمَتِكَ إلى دارِ القَرارِ)

الإيواء يعني الوضع في مكان آمن والشمول بالرعاية، ولكن هذه الإيواء العبد لا يطلبه بواسطة أعماله وأفعاله، بل يطلبه بواسطة الرحمة الآلهية، والباء هنا سببية وتعني بواسطة أو بسبب، ومن أعظم مصاديق الرحمة الآلهية هي ما ذكرت في القرآن الكريم : (مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) في وصف النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، فلعله يقصد بالدعاء هنا : أجعلني في الجنة التي هي دار الإستقرار الآمن بواسطة نبيك صلى الله عليه وآله، والذي يؤكد أن الرحمة هنا هي نبينا صلى الله عليه وآله هو ما تقدم في المقطع الأول من معنى موافقة الأبرار وأن الأبرار هم النبي الأعظم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين، بل إن معنى هذا المقطع من الدعاء هو الشفاعة؛ لأن المؤمن يدخل الجنة بشفاعتهم صلوات الله عليهم كما هو ثابت في علم الكلام، والثابت بلا خلاف في أن أمير المؤمنين عليه السلام هو قسيم الجنة والنار، وهو الذي يقف على الحوض كما في دعاء الندبة : (وَاَنْتَ غَداً عَلَى الْحَوْضِ خَليفَتي)، كما وردت مئآت الروايات الشريفة في بيان الشفاعة ومعناها وثبوتها.

 

(بإلهيَّتِكَ يا إله العالمينَ)

 

فالخلاصة:

أن العبد لا غنى له عن التوفيق فإذا فقده بقي تائهاً يرتطم بين جدران الذنوب والمعاصي. أن من مسببات التوفيق هما طلب النصيحة من الله عز وجل والرفق بعباده. أن أهم الأمور التي يطلب العبد التوفيق فيها هي أن تكون أفعاله وأقواله وأفكاره موافقة للنبي الأعظم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين. أن العبد يطلب الإبتعاد عن الإشرار من المرحلة الأولى وهي المرافقة لأن تعدي أشد من الأمراض المعدية،وهي تفتك بالروح كما يفتك المرض بالجسد. أن العبد يطلب الجنة بواسطة وشفاعة نبي الرحمة وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.

إبراهيم السنجري

مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي

gate.attachment