الخطبة الدينية للسيد أحمد الصافي من الصحن الحسيني الشريف بتاريخ 11 ذو القعدة 1438 هـ الموافق 04 /08 /2017 م

إذا تعوّد الإنسان على الحمد ستكون عنده الحسنات ملكة يندفع اليها اندفاعا

النص الكامل للخطبة الاولى

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين، الحمد لله الذي لا إله إلّا هو الملك الحقّ المبين، المدبّر بلا وزير، ولا خلق من عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبيّة، نور السموات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما.. إخوتي أبنائي آبائي رفع الله درجاتكم وصرف عنكم السوء والفحشاء، أخواتي بناتي أمّهاتي أطال الله أعماركنّ في خير وعافية، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.. أوصيكم أحبّتي جميعاً ونفسي الآثمة بتقوى الله تبارك وتعالى والسعي الى رضاه، والاستعداد ليوم الفاقة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم، سائلين الله تبارك وتعالى أن يمنّ علينا وعليكم بالخير والعافية والسداد بمحمد وآله.

بدءً أسعد الله لكم الأيّام بولادة الإمام الثامن أبي الحسن علي بن موسى الرضا(صلوات الله وسلامه عليه) سائلين الله تبارك وتعالى أن يوفّقنا جميعاً الى زيارته، وأن يدركنا الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم الذي نكون بأحوج ما نكون الى من يتدخّل بإذنه تعالى حتّى يرفع عنّا العذاب، ذلك اليوم الذي تشخص فيه الأبصار تنتظر رحمة الله تبارك وتعالى المنقذة لنا من أهوال يوم القيامة، سائلين الله تعالى أن يكون الإمام الرضا(صلوات الله وسلامه عليه) مع آبائه وأولاده شفيعاً مشفّعاً فينا، كنّا قد ذكرنا في خطبة سابقة حديثاً لأمير المؤمنين(صلوات الله وسلامه عليه) عندما سأله سائلٌ قال: يا أمير المؤمنين ما الخير؟ وقلنا إنّ الإمام(عليه السلام) بيّن لهذا السائل وذكرنا المقطع الأوّل من جوابه، قال(عليه السلام): ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك... وقد تقدّم هذا الكلام، قال: ولكن الخير أن يكثر علمك وأن يعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربّك، فإن أحسنت حمدت الله وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلّا لرجلين، رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجل يسارع في الخيرات، ولا يقلّ عملٌ مع التقوى، وكيف يقلّ ما يُتقبّل -إشارةً الى أنّه (إنّما يتقبّل الله من المتّقين)-.

أنا أقف الآن مع إخوتي الأعزّاء في هذا الحديث أو هذه الجملة التي بيّنها (صلوات الله وسلامه عليه)، طبعاً حضراتكم تعلمون أنّنا في الدنيا نسمع كثيراً من الموعظة ونشاهد أيضاً ما يمكن أن نتّعظ به، ولكن عندنا مشكلة وهي أنّ النفس تميل بنا الى الدعة، والشيطان أيضاً يتربّص بنا وقلنا سابقاً إنّ وظيفته هو أن يُبعدنا عن الله تبارك وتعالى بكلّ جيشه وخيله ومعدّاته، وهذه النفس عندما تميل الى الدعة ستفقد أشياء كثيرة، وأنّنا عندما نسمع الموعظة قد نتّعظ وقد لا نتّعظ، وإذا اتّعظنا فقد نتّعظ في ساعتها في حالةٍ من الانفعال وحالة من التأثّر المؤقّت، ثمّ سرعان ما نرجع الى سالف طبيعتنا، ولعلّ في الخطبة الثانية سيأتي بعض الإشارة الى ذلك، وتارةً لا نتّعظ، طبعاً إذا كنّا لا نتّعظ معنى ذلك قد وصلنا الى حالة -والعياذ بالله- أنّ هذا القلب والعقل قد ران وازدادت عليه الحجب حتّى كأنّه لا يرى شيئاً، ولعلّ العبارة التي يذكرها بعضهم في واقعة الطفّ، عندما تكلّم برير أو زهير هنا في كربلاء سنة 61 للهجرة عندما حدثت فاجعة الطفّ، الإمام الحسين(عليه السلام) مع صحبه ألقى المواعظ والخطب في سبيل أن لا يقع على هؤلاء ما لا يُمكن أن يُتدارك فيما بعد، وبيّن الإمام الحسين(عليه السلام) بأبلغ ما يكون وبأبلغ صور البيان، وهو ابن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) وهو عدلُ القرآن لكن هؤلاء لم يتّعظوا، وأيضاً مارس أصحابه معه نفس الأسلوب ونفس الطريقة، فماذا قال قائلهم؟! يخاطب زهير أو برير: لقد أبرمتنا بكثرة كلامك. والمتحدّث في مقام أن يكون ناصحاً له.

نوح(عليه السلام) لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً، ويتحدّث ويبيّن ويبلّغ، النتيجة أنّهم جعلوا أصابعهم في آذانهم حتّى لا يسمعوا ما يقول نوح(عليه السلام)، قطعاً هؤلاء عندهم آذان وعندهم عيون والله زوّدهم بما يحتجّ به عليهم -عقل وقلب-، لكن الانغماس في أمور أخرى جعلتهم لا ينظرون الى غير ما عندهم، وهذه من أعقد المشاكل التي تواجه الإنسان، أنّ الإنسان يصاب بمرض العمه وأنّ هذا القلب يعطّله والعقل يعطّله نتيجة الممارسات في غير ما أراد الله تعالى، حتى يكبر ويشيب وهو على هذه الحالة فيرى أنّ هذا الكلام كلام جديد ولابدّ أن يقاومه، حتّى في بعض المصطلحات الآن بعض العلوم الحديثة (مقاومة التغيير)، يعني يقاوم التغيير ولا يقبل به يقول: (هذا ما ألفينا عليه آباءنا)، أمير المؤمنين(صلوات الله وسلامه عليه) كلامه الشريف مشحون بالعظة والتوجيه، بحيث أنّ الذي يطّلع على كلام نهج البلاغة ويصغي لما يريده أمير المؤمنين ثمّ بعد ذلك لا يهتدي من الصعب أن يهتدي فيما بعد، أمير المؤمنين يتمتّع بهذه القدرة الفائقة في تصوير عمليّة العظة وتصوير حالتنا ونحن في عالم الدنيا، ويوجّه (صلوات الله وسلامه عليه) كلّما وجد الى ذلك سبيلاً، حتى كان كما يقول كميل يقول: خرجت معه الى الجبّانة الى خارج الكوفة، وكان أمير المؤمنين كأنّه يتحسّر ويقول وهو يشير الى صدره: هذا فيه علمٌ جمّ، لكن لا أجد صدراً يتحمّل. الذي وصلنا منه ما يُمكن أن يقوله(عليه السلام)، الشاهد أنّه تكلّم معنا عندما سأله هذا السائل، قال: ما الخير؟ والحقيقة أنّ بعض أصحاب أمير المؤمنين وأصحاب النبيّ وأصحاب الأئمّة كانوا نعم الأصحاب، وكانوا يغتنمون الفرصة ويستثمرونها مع وجود النبيّ والأمير والإمام، يسأل لأنّه قد لا يتوفّق أن يسأله مرّة ثانية، يراه في الحجّ يراه في الكوفة يراه في مكان معيّن فيحاول أن يستفهم من الإمام(عليه السلام) والإمام يجيب، الى أن ورثنا هذا الخزين المعرفيّ والكمّ الهائل.

قال: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك...) وتحدّثنا عن هذا المقدار فيما سبق، (ولكن الخير أن يكثر علمك وأن يعظم حلمك)، -لاحظوا هذا المقطع- (وأن تباهي الناس بعبادة ربّك) لاحظوا هذا المقطع وهو المباهاة، طبعاً الكلام لا يعني أنّ الإنسان يصلّي مثلاً ويأتي للناس ويقول أنا أكثر منكم صلاةً، ليس المقصود هو هذا، قد يدخل ذلك في باب العجب ويدخل في الكبر يدخل في الرياء، وقطعاً هذه من الأمور المحرّمة، فالإمام يريد بيان أنّ هناك أمراً هو عين الخير، الخير لا يكون محرّماً، فما المراد أن تباهي الناس؟ لاحظوا الإنسان عنده حالة يُقارن نفسه مع الآخرين، إمّا أن يستفيد من هذه المقارنة أو حالة فطريّة أنّ الإنسان يرى نفسه مثلاً متعلّماً، فيحاول أن يحثّ الخطى حتّى يتفوّق على الآخرين، وقطعا هذا عملٌ مباح وعملٌ جيّد، النظر للآخرين محفّز للعمل، التفتوا أنا عندما أنظر الى الآخرين أحفّز نفسي على العمل من باب المسابقة في الخيرات، أنا أتسابق معك للخير وهذا أمرٌ مندوب مطلوب، أنّ الإنسان يرى المؤمنين وهم يتعبّدون، بداخله يشعر أنّي لابدّ أن أكون أكثر عبادة، معنى أباهي الناس لا أقول إنّي أمامكم أتكلّم لكن بيني وبين نفسي أسعى الى أن أسبق هؤلاء في الخير، لماذا؟! –التفتوا- لأنّ الله تبارك وتعالى إنّما خلقنا لفرض، لواجب، لنكتة ألا وهي العبادة، فإذا لم نعمل بالوظيفة التي أرادها الله تبارك وتعالى قطعاً سنكون من المتمرّدين أو من الذين لا يعقلون ولا يفهمون، والقرآن عندما يعبّر يقول: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ أَضَلّ) وهذا التقريع حقيقةً تقريعٌ واقعيّ، لأنّ الإنسان إذا مات انتبه (الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا) وستنكشف حقائق، الإنسان يقول (رَبِّ ارْجِعُونِي لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحَاً) لاحظ القرآن ماذا يقول: (مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا) لا يوجد، من أصدق بشر من النبيّ؟ لا يوجد. من أصدق من أمير المؤمنين؟ لا يوجد غير النبيّ وهذه السلسلة. أمير المؤمنين(سلام الله عليه) عندما يتحدّث يأخذ معاني القرآن هذه ويبيّنها بلسانه، ولذلك لا تجد هناك تضادّاً بين ما يقول وبين ما تذكره الآيات الشريفة.

بالنتيجة هذا الخير كثرة الأموال وكثرة الولد هذا ليس خيراً، والدليل أنّ هذا مبذول حتى لمن لا يؤمن بالله تعالى، والقرآن يتحدّث -كما ذكرنا- عن فرعون وعن قارون وعن أمم كانوا أكثر منكم أموالاً، الله تعالى مكّنهم في الأرض، الآن هناك حضارات، بعض المكتشفين يكتشفون حضارات كانت ونشأت ثمّ بادت وتمتدّ الى عدّة قرون، إذن ليست القيمة الحقيقية في هذا، خصوصاً نحن نؤمن أنّ المنظومة الوجوديّة للإنسان ليست هذه الدنيا فقط وإنّما هناك أكثر من محطّة ينتقل الإنسان منها، الشيء المعلوم الآن عندنا في هذه الدنيا أنّ الناس تنتقل من هنا الى عالم الى عالم، فإذن –التفتوا- لابُدّ أن يكون الخير يعمل مع هذه العوالم جميعاً، أمّا إذا كان خيراً مقطوعاً فهذا واقعاً ليس خيراً، لذلك القرآن في أكثر من تعبير يعبّر عن الدنيا أنّها متاع، وهذا المتاع يعبّر عنه متاع الغرور أو متاع قليل، لأنّ النتيجة أنّه ينقطع لكنّ الخير الحقيقيّ هو الذي يعمل ويبقى مع هذه العوالم، الإمام(عليه السلام) يقول مجرّد جمع المال وكثرة الولد نَعَمْ.. الإنسان قد يأنس، لكن هذا ليس هو الخير الحقيقيّ، نعم.. به تستطيع أن تحصّل الخير الحقيقيّ لكن من غير المعلوم، الإنسان قد يتمنّى أموالاً حتّى –مثلاً- ينفقها في طاعة الله لكن من غير المعلوم أنّه إذا حصل على أموال يبقى على عهده، بالعكس قد يقلب ظهر المجن لأنّه أصبح في حال بدأ ينظر للأمور بطريقة أخرى.

إذن أن تباهي الناس بعبادة ربّك، لاحظوا ثمّ قال: (فإن أحسنت حمدت الله) لا تحمد الناس لأنّ الناس غير دخيلين في هذه الوظيفة وإنّما تحمد الله تبارك وتعالى، وهذه نكتة مهمّة للإنسان المتبصّر، أنّ هذه الحسنات يُمكن أن يحصل الإنسان عليها، والحسنات أمرُها سهل وتحصيلُها سهل، والخير معلوم والإنسان يُمكن أن يحصل في اليوم على كذا حسنة، لكن يجب عليه أن يلتفت الى ما يُبقي هذه الحسنة، وأن يحمد الله وحمدُ الله تعالى أيضاً فيه أجر للإنسان، أمير المؤمنين يريد أن يحيط هذا الإنسان بوقاية أن يقيه من شرّ ما يُمكن أن ينفذ اليه ويهدّم هذا العمل، لا يُمكن للإنسان أن يُحسن ويقول: نَعَمْ هذا بجهدي، الإنسان بلحظة قد يُسلب كلّ شيء منه، لكن عندما يحمد الله يعني يبقى على السلامة، والإنسان يُحسن مثلاً الإنسان يتوفّق أن يكون من العباد الفائقين، يفوق الآخرين عبادةً ويفوق الآخرين من خلال من يعاشر، لكن هذا المقدار وحده غير كافٍ، لذلك الإمام في نهاية هذا الحديث يربط المسألة بالتقوى، لكن الإنسان عندما يحصل على هذه الحسنات يحمد الله تعالى، يقول الحمد لله الذي وفّقني مثلاً لصلاة الليل، الحمد لله الذي وفّقني الى أن أطعم فقيراً، الحمد لله الذي وفّقني أنّي أرشدت ضالّاً، الحمد لله الذي وفّقني أن كسبت علماً، أنفقت على عائلتي، أنفقت على أصدقائي، حفظت غيبة أخي، هذه كلّها حسنات يحمد الإنسانُ اللهَ عليها، وإذا تعوّد الإنسان على الحمد ستكون عنده الحسنات ملكة يندفع اليها اندفاعاً، ستكون هذه الحسنات عنده لأنّه حصّن نفسه -لا سمح الله من الاختراق...

gate.attachment