دور محاولات اغتيال الإمام الحسين عليه السلام في صناعة الإرهاب - ج1

مقدمة

مفردة ومصطلح الاغتيال من المصطلحات المألوفة في التراث الديني القديم، ويُراد منه ـ على ما في كتب التراجم اللغوية ـ أن يحتال شخص على آخر يريد قتله، فيستدرجه إلى مكان بعيد عن الأنظار فيقتله فيه؛ لئلا يراه أحد[1]. ويُصطلح على العمليات المنظَّمة والسرِّية التي يُراد منها إبادة شخص معيَّن والقضاء عليه سرَّاً وتصفيته جسدياً في الاصطلاح المعاصر، وإن لم يكن باستدراجه إلى مكان معين[2]، ولهذا التعريف الاصطلاحي المعاصر مستنده اللغوي في بعض المعاجم أيضاً؛ إذ ذُكر هذا المعنى في معجم مقاييس اللغة[3].

 وتُشكِّل عملية الاغتيال والغدر ظاهرة خطيرة في كافة المجتمعات قديماً وحديثاً؛ ينجم عنها حالة مرعبة في المجتمع الذي يشيع فيه ذلك، ويجعل في نفوس سائر الناس ـ حتى المدنيين العُزَّل ـ حالة من القلق والرعب اللذين يزرعان فيهم عدم الثقة بالآخرين، فيعيشون حالة مهولة من الإرهاب النفسي والخوف المفرط على حياتهم، وقد تختلف هذه الظاهرة التي نتكلم عنها من مجتمع إلى آخر ـ ومن زمان إلى آخر أيضاً ـ شدةً وضعفاً؛ إذ قد تجد هذه الظاهرة متفشية في بلد من البلدان أو مجتمع من المجتمعات؛ ما يجعل من هذا البلد مكاناً لا يمكن العيش فيه إطلاقاً، وغالباً ما يوعز ذلك إلى أسباب لسنا بصدد بيانها مفصلاً، إلّا أننا نُشير إلى بعضها على عجالة، وهي:

1ـ الأسباب السياسية: فقد تكون طبيعة تفكير الدولة الحاكمة قائمة على إفشاء هذه الظاهرة في المجتمع الذي يخضع تحت سيطرتها؛ فتوظف لذلك أشخاصاً يقومون بتصفية مَن يشكِّل خطراً على مصالحهم، وقد يكون هدفهم قائماً في قتل أشخاص غير معينين، من أجل بثّ الرعب والخوف في قلوب الرعية؛ لينشغلوا بأنفسهم عن التفكير في أيّ تغيير أو إصلاح يصبّ في صالح المجتمع، وهذا النوع من الاغتيالات يُصطلح عليه الاغتيال السياسي.

نعم، قد ينعكس الأمر في الجبهة المعارضة للحكومة العادلة؛ فيستخدمون ـ لأجل الوصول إلى أهدافهم وغاياتهم ـ الأُسلوب نفسه.

2ـ الأسباب العقائدية: ويُشكل هذا السبب دافعاً كبيراً لمن يحمل بعض الأفكار العقدية التي تُحرّكه للإقدام على قتل الآخرين الذين يختلفون معه بالمبادئ والرؤى الفكرية الدينية، سواء أكانت أُصولاً ومعتقدات أم فروعاً فقهية.

3ـ الأسباب المادية أو الاقتصادية: ويكون الهدف من اغتيال الآخرين هو الحصول على شيء من المال، فيقوم منظِّم هذه الجريمة بقتل شخص ونهب ممتلكاته.

4ـ الأسباب الإجرامية: ويراد منها أن هناك صنفاً من الناس قد أصبح دموياً وإجرامياً إلى درجة لا يروق له العيش إلا بإراقة دماء الآخرين، والقضاء عليهم وإن لم يكن بينه وبينهم أي خلاف أو نزاع يدعو إلى القتل.

إلى غير ذلك من الأسباب والدوافع التي تكمن وراء ظاهرة الاغتيال وإزهاق الأرواح.

 

رصد محاولات الاغتيال والفتك بالإمام الحسين عليه السلام  من الجهاز الحاكم

تفشت ظاهرة الاغتيال ومباغتة الآخرين في الحكومة التي عاصرت حياة الإمام الحسين عليه السلام  ونهضته المباركة بشكل سافر، إلى درجة أن أفراد الجهاز الحاكم لا يراعي الكتمان والتستر على ما يقوم به من محاولات قذرة، أودت بحياة كثير من رجالات الإسلام الأصلاء الذين أفنوا أعمارهم لأجل الحفاظ على دين الله عز وجل؛ إذ راح ضحيتها عينة أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام  من أمثال مالك الأشتر وغيره[4]، ولا نريد أن نستقصي كل ما حصل في هذه الحقبة الزمنية من اعتداءات على حياة الآخرين، وإنما نجعل نقطة انطلاقنا عصر النهضة الحسينيّة؛ حيث سجل لنا التأريخ محاولات عديدة يُراد منها القضاء على شخص الإمام الحسين عليه السلام  بدم بارد ومن دون أن يكون لمقتله أيّ صدىً في الوسط الإسلامي؛ وذلك باتباع طريقة غامضة لا يمكن لأحد من الناس الوقوف على ملابسات حدوثها، فيكون في ذلك تحقيق أهدافهم والتي من أبرزها زرع الإرهاب والرعب في نفوس كل مَن تراوده أفكاره بمخالفة الحكومة الغاشمة؛ فيضمنون لأنفسهم استمرارية التسلط على رقاب المسلمين من دون منازع أو مخالف.

إلّا أن الخطط الاستباقية التي خطَّط لها الإمام الحسين عليه السلام  لإفشال محاولاتهم حالت دون تحقق مرادهم، وسوف نورد النصوص المثبتة لهذه الوقائع تباعاً، مع ذكر الطرق التي أفشل عليه السلام  من خلالها تلك المخططات وجعلها تبوء بالفشل:

أولاً: إيعاز يزيد إلى والي المدينة بقتل الإمام الحسين عليه السلام

كانت حادثة هلاك معاوية ـ وإرسال يزيد رسالة إلى والي المدينة بأخذ البيعة من أهل المدينة ـ هي نقطة انطلاق النهضة الحسينيّة المباركة، وقد حمل هذا المنعطف التأريخي  في طياته مؤامرات خطيرة للتخلص من الإمام الحسين عليه السلام  بمباغتته واغتياله بدم بارد؛ فقد ذكر البلاذري حول ذلك: «وكتب إليه في صحيفة كأنّها أُذن فأرة: أمّا بعد، فخُذْ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً، ليست فيه رخصة ولا هوادة حتى يبايعوا، والسلام». وعندئذ أرسل الوالي إلى مروان بن الحكم واستشاره في ذلك، فأشار عليه بقوله: «أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر، فتدعوهم إلى البيعة، فإن بايعوا قبلت ذلك منهم، وإن أبوه قدّمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بوفاة معاوية»[5].

إلا أن الإمام الحسين عليه السلام  ـ وحين أخبره رسول الوالي بما يريده الوليد ـ اتخذ التدابير اللازمة التي توفِّر له ضماناً وحماية من كل خطر يحول بينه وبين هدفه الذي ينشده من هذا الرفض للحاكم الغاصب، فكما هو متسالم عليه في المصادر التاريخية أنه عليه السلام  أحضر ثلاثين رجلاً من أهل بيته وأوقفهم على باب قصر الوالي، وجعل بينه وبينهم كلمة سر لأيّ تحرُّك يريده عليه السلام ، فأمرهم بأن يقتحموا عليه القصر فيما لو علا صوته عليه السلام [6].

وبهذه التدابير الأمنيّة استطاع الإمام الحسين عليه السلام  أن يبطل أُوْلى محاولات الجهاز الحاكم، الذي يسعى للحيلولة دون تحقيق أهدافه الساميّة من نهضته المباركة.

ثانياً: محاولة اغتياله عليه السلام  في مكة المكرمة

بعد أن فشلت محاولات الجهاز الحاكم في المدينة، ولم يتوصّلوا مع الحسين عليه السلام  إلى حلّ لتسوية الأُمور وأخْذِ البيعة ليزيد بن معاوية منه ـ سواء بالقهر والقوة أو بالإقناع والإرضاء عن طريق بعض الوسطاء المنتفعين من الحكومة الأُموية ـ قرّر عليه السلام  أن يتّجه إلى مكة المكرمة، حاملاً معه عياله وأهل بيته؛ ليبطل جميع مخططاتهم الماكرة وأهدافهم الإجراميّة، ولكي يوصل صوته الرافض للظلم والاضطهاد إلى الجماهير المتواجدة في حرم الله الآمن مكة المكرمة، فتوجه عليه السلام  إلى مكة في موكب يضم مجموعة كبيرة من أهل بيته وعياله، وقد حقّق عليه السلام  في أيام قليلة إنجازات كبيرة خلال تواجده بين الوفود القادمة لأداء مراسم الحج، وأخذت الناس تتردد عليه بشكل ملفت لأنظار الجميع؛ حينها أحسّ النظام الحاكم بالخطر ـ بعد أن تفاقمت الأُمور وأخذت تجري لغير صالحهم ـ فاتخذ أزلامه تدابير إجراميّة للقضاء على الحسين عليه السلام ؛ لئلا يصل صوت الرفض وإرادة التغيير إلى عموم الناس؛ فأرسلوا مجموعة من رجالاتهم لاغتيال الإمام الحسين عليه السلام  في مكة بيت الله الآمن، والقضاء عليه بأيّ وسيلة ومهما كان الثمن، كما ذُكر ذلك في كتب التاريخ، حيث جاء في بعض المصادر أن في: «يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي الحجة يوم التروية كان فيه خروج الحسين (رض) من مكة إلى العراق، بعد أن طاف وسعى وأحل من إحرامه، وجعل حجه عمرة مفردة؛ لأنه لم يتمكن من إتمام الحج مخافة أن يبطش به ويقع الفساد في الموسم وفي مكة؛ لأن يزيد أرسل مع الحُجّاج ثلاثين رجلاً من شياطين بني أُمية، وأمرهم بقتل الحسين على كل حال»[7].

ولم يتضح من النص الآنف الذكر كيف استكشف الإمام عليه السلام  وأحس بذلك الخطر، ومَن هم هؤلاء الأشخاص الذين أرسلهم يزيد بن معاوية، وعن أيّ طريق وصلت إليه هذه المعلومة الخطيرة؛ الأمر الذي اضطره إلى تغيير مناسك حجّه والاكتفاء بأداء العمرة المفردة، إلا أنه سلام الله عليه استطاع بذلك أن يُفشِل محاولتهم الثانية التي أرادوا منها اغتياله والقضاء عليه سراً عن طريق أفراد مجهولين.

ومما يؤكد صحة هذه المعلومات التي وُثِّقت لنا في كتب السير والتأريخ هو ممانعة السلطة المحلية وعدم السماح لقافلة الإمام الحسين عليه السلام  بالخروج من مكة المكرمة، فتدافعوا مع رجال موكبه عليه السلام ؛ حتى وصل بهم الأمر إلى وقوع الاقتتال بينهم ولم يتمكنوا من إقناعهم أو إجبارهم على البقاء[8].

ثالثاً: مراقبة الإمام الحسين عليه السلام  في مسيره حتى أنزلوه في كربلاء

 بعد أن أفشل الإمام الحسين عليه السلام  جميع المحاولات التي قاموا بها في المراحل السابقة، وأفلت زمام الأُمور من أيدي الزمرة الحاكمة، وأخذت الأُمور تسير بمسار لم يكن في حسبانهم، أخذوا بالتخطيط لإجراءات خطيرة وصارمة بحق هذه الحركة المباركة، فقرروا القضاء عليها بأيّ شكل من الأشكال ومهما كلَّف الأمر، باحثين عن الحلول التي تصب في صالحهم، ومستعينين بخبرات كل مَن كان على نسقهم؛ فاستشار يزيد مستشاره الرومي سرجون وأطلعه على مجريات الأحداث، فأشار على يزيد ـ وبلغة إقناعية محنكة[9]ـ بأن يولّي عبيد الله بن زياد على الكوفة، فكتب يزيد مرسوماً بذلك وبادر إلى تنصيب عبيد الله بن زياد على الكوفة، بعد أن كان والياً على البصرة، وما أن وصل الكتاب إلى عبيد الله بن زياد حتى أسرع في اتخاذ التدابير اللازمة والحلول العلاجية لتلافي الموقف الحرج الذي وقعت فيه الحكومة الصبيانيّة بأفعالها والفتيئة في تأسيسها، وكان أحد هذه الحلول إرسال قوّة عسكرية إلى الجهة التي يتواجد فيها الإمام الحسين عليه السلام  لمشاغلته وتغيير مسيره إلى جهة يكون فيها نهاية المعركة لصالح الجهاز الحاكم، وهذا ما وثقته لنا النصوص التاريخية الكثيرة؛ إذ ورد فيها: «وبلغ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) الخبر، وأن الحسين عليه السلام  قد نزل الرهيمة، فأسرى إليه الحر بن يزيد في ألف فارس»[10]. وقد استمر الحر بن يزيد الرياحي بمسايرة الإمام الحسين عليه السلام  بين جذب ودفع، حتى وصله كتاب من عبيد الله بن زياد يحمل في طياته أمراً بمضايقة الإمام الحسين عليه السلام  وعدم السماح له بالتحرك: «فلما أصبح نزل فصلّى الغداة، ثم عجّل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه؛ يريد أن يُفرِّقهم، فيأتيهم الحر بن يزيد، فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردَّاً شديداً امتنعوا عليه فارتفعوا، ولم يزالوا يتسايرون، وكذلك حتى انتهوا إلى نينوى، المكان الذي نزل به الحسين عليه السلام ، فإذا راكب على نجيب له عليه السلام  متنكّب قوساً مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلما انتهى إليهم سلّم على الحر وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين عليه السلام  وأصحابه، ودفع إلى الحر كتاباً من عبيد الله بن زياد. أما بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويُقدم عليك رسولي، ولا تُنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك، ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام...»[11]، وأخذ  الركب في ظاهر حاله[12] يسير على غير مرامه عليه السلام  إلى جهة لم يكن قاصداً لها أساساً، حتى أنزلوه في أرض تتوافق مع مبتغى عبيد الله بن زياد وأسياده اللئام، في أرض صحراء قاحلة، وقد تمركز الجيش المعادي للإمام عليه السلام  بالجهة التي لا يمكن لأحد أن يصل إلى الماء إلا عن طريقهم، وأخذت الجيوش تتوالى على هذا المكان من أجل القضاء على الإمام عليه السلام  والتخلص منه بأسرع ما يمكن، وكانت توقعاتهم أنهم يتخلصون من الإمام عليه السلام  ومَن معه فتوأد حركتهم في هذه الصحراء ولا يبقى لها أيّ صدى أو صوت، ومن دون أن يقف الشعب على ملابسات أو تفاصيل الحادثة، وهذه المحاولة هي إحدى أنماط الاغتيال الذي خطَّط له رجال الحكومة الغاشمة آنذاك، كما هو واضح من المعنى اللغوي الذي ذكرناه في بداية بحثنا هذا.

إلا أن الإمام الحسين عليه السلام  اتخذ الإجراءات اللازمة لهذه المرحلة ووضع لها البدائل والحلول، إذ كان عليه السلام  باصطحابه العيال والأطفال قد أفشل كل المخططات التي أرادها أعداؤه؛ فلم يستطيعوا إخفاء هذه الحادثة عن الجماهير التي تلقت نبأ استشهاده عليه السلام  بتفاصيلها عن طريق عياله وأهل بيته، وحينها انقلب السحر على الساحر.

 

كلمات الإمام الحسين الدالة على إحساسه بالخطر المحدق به من قِبَل الجهاز الحاكم

 مجرد نظرة عابرة وسريعة في بيانات الإمام الحسين عليه السلام  وكلماته مع أهل بيته وأصحابه تفيدنا بأنه عليه السلام  كان يستشعر الخطورة التي تُحيط به في كل مكان؛ وتُبيِّن لنا معرفته الدقيقة بالخطر المُحْدِق به من قِبَل الجهاز الحاكم آنذاك، فحين «منعه عليه السلام  محمد بن الحنفية عن الخروج إلى الكوفة. قال: والله ـ يا أخي ـ لو كنت في جِحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه حتى يقتلوني». وفي نص آخر ذكره جملة من المؤرخين أنه قال عليه السلام : «يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم؛ فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت»[13].

ولذا ذكر العلامة المجلسي ـ في مقام إبداء رأيه حول موقف الإمام الحسين عليه السلام  وما قام به من تكليف وأنه مأمور بذلك ـ أن الحكومة الغاصبة لا تتركه عليه السلام  وإن بايع وانصاع لأوامرها، فقال رحمه الله: «بل الظاهر أنه صلوات الله عليه لو كان يسالمهم ويبايعهم لا يتركونه لشدة عداوتهم، وكثرة وقاحتهم، بل كانوا يغتالونه بكل حيلة، ويدفعونه بكل وسيلة، وإنما كانوا يعرضون البيعة عليه أولاً لعلمهم بأنه لا يوافقهم في ذلك، ألا ترى إلى مروان لعنه الله كيف كان يُشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه، وكان عبيد الله بن زياد عليه لعائن الله إلى يوم التناد يقول: اعرضوا عليه، فلينزل على أمرنا ثم نرى فيه رأينا؟...»[14].

وقد ذُكر في بعض المصادر كلاماً له عليه السلام  مع ابن عباس أشار فيه إلى المؤامرة التي خطط لها العدو في مكة، وأنه عليه السلام  يحبِّذ أن يُقتل في أيّ مكان سوى استباحة مكة بدمه، حيث قال عليه السلام : «لأنْ أُقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أنْ أُقتل بمكة وتُستحلّ بي. قال: فبكى ابن عباس...»[15].

وقد بقيت هذه الحادثة راسخة وعالقة في ذهن عبد الله بن عباس، فأفصح بها إلى يزيد في رسالة احتجاجية ـ تناقلتها مصادر تاريخية مختلفة ـ يُذكِّره بالموبقات التي قام بها، فكتب إليه فيما كتب: «...فلست بناس اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب...»[16].

ويمكن أن نضمّ إلى هذه البيانات مجموعة من النصوص التي تتضمن إشارته عليه السلام  إلى محاولات الاغتيال التي تكررت ضده، وهي قوله عليه السلام : «والله، لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يُذلهم حتى يكونوا أذلَّ من فرم الأمَة»[17]؛ إذ إن كلامه عليه السلام  يستبطن وضوح المحاولات التي يُحيكها أعداؤه للقضاء عليه وبأيّ طريقة كانت، وإن استوجب ذلك قتله سرّاً وغيلة. وأيضاً يظهر لنا ذلك بوضوح في قوله لأبي هرة: «يا أبا هرة، إن بني أُمية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت...»[18]، وكذلك قوله في رواية الرياشي حين سُئل عن سبب خروجه فقال عليه السلام : «إن هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتلي، فإذا فعلوا ذلك ـ ولم يدعوا لله محرماً إلا انتهكوه ـ بعث الله إليهم مَن يقتلهم»[19]. ففي هذه المحاورة وإن كان الضمير في قوله عليه السلام : «وهم قاتلي». يحتمل أن يكون عائداً على أهل الكوفة، إلا أن الإخافة التي أدّت إلى إخراجه من موطنه ومن مكة المكرمة ـ  والتي جاءت في بداية الحديث ـ كان المسبب فيها هُمْ بنو أُمية وأذنابهم. وكذا ما جاء في جوابه عن سؤال الفرزدق في محاورة طويلة جرت بينهما، كانت إحدى فقراتها قول الفرزدق: «...بأبي أنت وأُمي يا بن رسول الله، ما أعجلك عن الحج؟ فقال: لو لم أعْجَلْ لأُخذت...»[20].

 

وتشترك النصوص الواردة في هذه الفترة الزمنية في عدة مداليل مهمة، نشير إلى أبرزها:

أولاً: يظهر من هذه النصوص استغراب وتفاجئ كل مَن علم بنيَّة الإمام عليه السلام  وتغيير وجهة نظره حول استقراره في مكّة المكرّمة، فتساءل الجميع بتعجب ودهشة عن السبب الذي دعاه إلى تغيير نسكه، وإعلانه عن مغادرة حرم الله الآمن.

ثانياً: لم يختلف الأمر بالنسبة للإمام بين أن يكون السائل أو المشير عليه من أقربائه وأرحامه أو من خاصته وبين أن يكون غريباً ومجهول الهوية، فالكل يُستقبَل من قِبَله عليه السلام  بطلاقة وجهٍ وسماحة وتحمُّل في الإجابة؛ ولعل أحد الأسباب في ذلك هو أن نهضته المباركة وإرادته للتغيير تعتمد وتقوم على جميع شرائح المجتمع البشري، فالباب مفتوح أمام كل مَن أراد أن يستفهم عن الدواعي من وراء إرادة هذا التغيير في المجتمع الإسلامي.

ثالثاً: تقصَّد الإمام عليه السلام  ـ في كلامه مع كل مَن تساءل عن سبب مغادرته مكة المكرمة ـ التركيز وتسليط الضوء على أن السبب الذي اضطره إلى تغيير نسكه ومغادرة مكة المكرمة هو مخافة اغتياله في هذا المكان والحرم الآمن، مع أن خارطة الطريق في نهضته المباركة واضحة له عليه السلام  مرسومة أمام عينيه، ومع أن أهدافه من وراء هذا التحرك المفاجئ كثيرة جداً.

رابعاً: لقد سعى الإمام عليه السلام  إلى الحيلولة دون وقوع أيّ عائق أمام تحقيق غرضه المنشود من نهضته المباركة، وبما أن استشهاده عليه السلام  في مكة وبطريقة سرّية وخافية على الجميع يتقاطع مع تحقيق أهدافه السامية سارع إلى إبطال هذا المخطط الذي بُنيت عليه أُسس وقواعد الحكومة الأُموية.

ومن المحاورات التي حملت في طياتها نصاً توثيقياً لمحاولة اغتيال الإمام الحسين عليه السلام  هو ما جرى بينه عليه السلام  وبين أُخته الحوراء زينب سلام الله عليه وآله؛ حيث إنها لما سمعت كلاماً له فهمت منه أنه عليه السلام  قرّر المضيَّ قُدماً نحو الموت حزنت حزناً شديداً واعتراها من الغمِّ ما يعجز الكلام عن وصفه: «فقال لها الحسين: يا أُختي، لو تُرك القطا لنام. قالت: فإنما تغتصب نفسك اغتصاباً! فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي. وخرّت مغشياً عليها، فلم يزل يناشدها واحتملها حتى أدخلها الخباء»[21]. فإن قوله عليه السلام : «لو تُرك القطا لنام». يدل على أن الجهاز الحاكم وأزلامه مستمرون على هذه الطريقة للتخلص من الإمام الحسين عليه السلام ، ولم يتركوه إطلاقاً.

 

 الكاتب: الشيخ صباح عباس الساعدي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد العاشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

 [1] قال الخليل الفراهيدي: «الاغتيال: يُقال: قتله غيلة. وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله». الخليل بن أحمد، العين: ج4، ص447. واُنظر: الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، الصحاح: ج5، ص1787.

[2] اُنظر: جميل ظاهر، الاغتيال سلاح غدر ومكر يهودي أُموي لكتمان الحقيقة الإلهية

http://www.southlebanon.org/archives/

[3] قال ابن فارس: «( غول ): الغين والواو واللام أصل صحيح، يدل على ختل وأخذ من حيث لا يدري، يقال: غاله يغوله. أخذه من حيث لم يدرِ». ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة: ج4، ص402.

[4] اُنظر: الحموي، ياقوت، معجم البلدان: ج1، ص454. وأيضاً: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، اللباب في تهذيب الأنساب: ج3، ص304.

[5] البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص300.

[6] اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص32.

[7] القندوزي، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة: ج3، ص59.

[8]اُنظر: الدينوري، ابن قتيبة، الأخبار الطوال: ص244. وأيضاً: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص68.

[9] لأن يزيد بن معاوية لم يكن راضياً عن عبيد الله بن زياد، وكان جافياً له وعاتباً عليه. اُنظر: الأزدي، أبو مخنف، مقتل الحسين: ص22. وأيضاً: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص265. وأيضاً: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص42.

[10] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص218.

[11] النيسابوري، محمد بن الفتال، روضة الواعظين: ص180.

[12] إنما قلنا: في ظاهر حاله. لأن الإمام عليه السلام  كان يعلم بمصيره منذ بداية الأمر، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا علم الإمام بين الإطلاقية والإشايئة على ضوء الكتاب والسنّة: ص189.

[13]  ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص39.

[14] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص99.

[15] ابن كثير، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص178.

[16] اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص249. واُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص128.

[17] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص216. وأيضاً: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص76.

[18] الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج5، ص71.

[19] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص368.

[20] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص67.

[21] الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص57.

 

gate.attachment