لوحة الوداع

                                                   لَوْحة (  الوَدَاع  )

        وهي من ابداعات الفنان حسن حمزة شاهر , رُسِمَتْ سَنَة 2010  ميلادي قياس 250×140 سم ؛ تناولت هذه اللوحة تجسيد لحظة تُعدُّ من أصعَب ما واجهَهُ سيد الشهداء في الطف , ومن أكثرها ألماًعلى قلبه , فلما استشهدَ أخوهُ العباس عليه السلام ؛ التفت الامام الحُسَين عليه السلام ؛ فلم يَرَ أحداً ينصرُهُ , ونظر الى أهله وصبحه المجزَّرين على الرمضاء , التي اختضبت بدمائهم الطاهرة , وَهو يَسمْعُ عويل النساء وصراخ الأطفال , صاح بأعلى صوتهِ : ( هَلْ من ذاب عن حُرُم رَسُول الله ؟! هل من مُوَحّدٍ يخافُ اللهَ فينا ؟ هَلْ من مُغيث يرجو الله في إغاثتنا ؟) فارتفعت الأصوات بالبكاء للنساء والأطفال , إنها كلمات تدفقت من وجدانٍ ألْهبَهُ جَورٌ لم يقع على أحدٍ من قبل , وَمَوقف لا يمكن لأحدٍ أن يتحملَهُ , مهما كانَ يتحلَّى بالصبر والجلادة , ولكن الأمام الحسين عليه السلام ضرب فيه أعظم صورةٍ يجَسّدُ فيها الصبر والقوة ورباطة الجأش , والثبات على القيم والمرابطة على سبيل الحق ,مهما كان الثمن لذلك .  ولكن مع هذا عليه السلام كان يحمل حنان الأب والأخ والعم , وما تحملُهُ هذه الكلمات من اُفق المعاني والقيم الإنسانية اجتمعت في شخصهِ الطاهر , ومشاعرهِ المتدفقة ,ودموعهِ الناطقة , ولسانهُ الذي يشدُوا بأروع كلمات الاحتساب والصبر وبلاغة الحكمة , وهو يشاهدُ , وَيودَّع أولادَهُ وإخوانه من أهل بيته وأصحابه الَّذين كانوا تُرساً لهُ أمام قواطع السّيُوف وطعُون السهام والرماح . وَعندما وَقف عليه السلام في لحظةٍ بين نارَي مشهدين ؛ ( مشهَدٌ ) ما تراهُ عينيهِ من أجساد الذين كانوا معه وهم قتلى هنا وهناك , ( مشهد ) هو الأصعب والأشد وَقعاً مِنْ بين مَشاهِد مأساة الطف , وَهو يَسْمَعُ اصوات بكاء وعويل النساء , وصُراخ الأطفال الذينَ سَيتركهم لوحدهم في العراء , وبمتناول المجرمين الوحوش الذين سفكوا كل هذه الدماء , ولا ناصر معهم , ولا احد يحميهم , وكل الرجال قتلُوا فلم يبقَ معهم سوى ابنه ( السَّجاد عليه السلام ) وهو طريحُ الفراش يُصارع المرض الذي أنهل جَسَدَهُ الشريف ، كان موقف على سَيِّد الشهداء لا يمكن أن يُوصف بكلماتٍ, ولكن في خضم هذه المشاعِرِ والصراع وزحام الرؤى ؛ يجسِّدُ الامام الحُسين عليه السلام اللحظات الأخيرة في مشهد التوديع المؤلم , لمن بقي في المخيَّم من النساء والأطفال , الَّذيْنَ تنظرُهُ أعينهم بكل معاني الألم والحُزن , بأنهُ هُوَ الآخر سَيَلتحق بقوافل الشهداء ولا يملكون من الأمر شيء , سُوى أن يعيشوا ويحسُّوا بكل ثانية بقيت لهُمْ مَعَهُ بأرواحهم وَوجدانهم الدامية , وَفي زحام الدُمُوع المُنهمِرة , والقلُوب المنفطرة , والأصوات المنكسرة ,وبراءة الأطفال الخائفة والمرتعبة ؛ يُقبِلُ عليهم الأمام الحُسين عليه السلام ؛مودِّعاً عيالَهُ , وأمرهم بالصَّبر ولبس الأزُر , وقال : (استعدوا للبلاء واعلمُوا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم , وَسَيُنَجِّيكم مِنْ شر الأعداء , ويجعل عاقبة أمركم الى خير, وَيُعذِّبَ عَدُوكم بأنواع العذاب , وَيُعوِّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة , فلا تشكُّوا ولا تقولوا بألْسنتكم مَا ينقصُ من قدْركم ) .

         حقاً لو قيل بأن هذا الموقف من أعظم ما لاقاه سيد الشهداء في هذا اليوم , فان عقائل النبوة تشاهد عماد أخبيتها, وسياج صونها , وحمى عِزّها , ومعقد شرفها مُؤذناً بفراق لا رُجُوعَ بَعْدهُ , فلا يَدْريْنَ بمن يعتصمن من عادية الأعداء , وبمن العزاء بَعْدَ فقده .

         فلا غرو إذا اِجتمعت عليهِ وَأحطن به وتعلقن بأطرافه بين صبي يئن , وَوالهة أذهلها المصاب , وَطفلة تطلبُ الأمن واُخرى تنشِدُ الماء ! إذاً فما حال سيد الغيارى ومثال الرقة والحنان وهو ينظر - بعلمه الواسع – الى ودائع الرسالة , وحرائر بيت العصمة وَهن لا يعرفن إلاّ سجن العز, وحُجُب الجلال , كيف يتراكض في هذا البيداء المقفر بعولةٍ مشجية , وهتاف يُفطر الصخر الأصم , وزفرات متصاعدة من افتدت حُرى !فإن فررن فعن السلب , وإن تباعدن فمن الضرب ! ولا محامٍ لهُنّ غَيْرَ الإمام الذي أنهكتهُ العِلَّة !

       أما عقيلة بني هاشم ( زينب الكبرى ) عليها السلام فإنها تبصِّرُ هذا وذاك , فتجدُ عُروة الدين الوثقى عرضة للأنقصام , وحبل النبوة آيلاً الى الانصدام , ومنار الشريعة الى الخمُود , وشجرة الإمامة الى الذُبُول .

              تنعى ليوث البأس من فتيانها           وغيوثها إن عمت البأساءُ

              تبكيْهم بِدمٍ فَقُل بالمُهجَة الحُرا          تَسِيْــلُ العَبْـــرة الحمـــراءُ

              حَنَّت ولكنَ الحنينَ بكـا وقـد          ناحت ولكنْ نوحُها إيْمــاءُ

وإلتفت الامام الحسين عليه السلام إلى إبنته سُكينا , التي يصفها للحسن المثنى (بأن الأستغراق مَعَ اللهِ غالبٌ عليها) . فرآها عليه السلام منحازة عن النساء باكية نادبة , فوقف عليها سلام الله عليه مُصبّراً ومُسلّياً , ولسان حاله يقول :

           هَــذا الوَدَاعُ عــزيزتي وَالمــلتقى          يومَ القيامـــة عند حـــوض الكـوثر

           فـدعي البكاء وَللأســار تــهيئي          واستـشعري الصـبَّرْ الجميل وَبادري

          وإذا رأيــتيني على وَجـهِ الــثرى          دامـي الوَريـــد مُـبَضَّعاً فتصــــبَّري

        فقال عمر بن سَعْد : وَيحكم اهجمُوا عليه مادامَ مشغولاً بنفسهِ وحرمهِ , والله إن فرغ لكُمْ لاَ تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم , فحملُوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب المخيم , وشك سهم بعض أزر النساء فدهشن وَاُرْعبْنَ , وصحن وَدخلن الخيمة ينظرن إلى الحُسين كيف يصنع , فحمل عليهم كالليث الغضبان , فلا يلحق أحداً إلاّ بعَجهُ بسَيْفهِ فقتَلهُ ,والسِهام تأخذه من كل ناحية, وهو يتقيها بصدرهِ وَنحرهِ ... .

       وَلَوْحَةُ ( الْوَدَاع ) تضمنت تصوير مشهد التوديع الأخير للنساء والأطفال الذين التفوا حَوْلَ الإمام الحُسين عليه السلام , الذي أطفى عليه أنغام الحُزن وفضاء الألم , والجمع بين الإبداع الفني والإعجاز التقني الحرفي , المنصهر في ثنايا المشهد الذي يخيم عليه هول الموقف , ونهاية فصول الفاجعة الأليمة , حيث أول ما يتجلى في طلتها الأولى على عين المتلقي الألم والحُزن المتجلي في شخص الإمام سيد الشجعان وهمام الغيارى , وهو لا يملك سوى أن يُودِّع كل من حوله من أهل بيته العُزل وابنه الذي يُصارعُ المرض ليرتمي في بحر السيُوف والرِّماح لتطرز على جسدهِ الشريف قصيدة الاباء والخلود عبر الزمان والعُصُور , حيث يتوسط الإمام وَهو على فرسَهِ اللوحة ، وبحضنه ابنته رُقية سلام الله عليها واُختُهُ العقيلةُ السيدة زينب عليها السلام , وهي متشبثة بيدها حول ساق أخيها بعفوية الحزن والفؤاد المنفطر , ومتوسِّدة برأسها عليه بغاية الحنان الروحي العذب وهدير الجريح , ليعكس هذا المشهد غاية الِّقة التعبيرية لهذه الصورة العاطفية التاريخية والفريدة من نوعها , حيث يظهر على الإمام من خلال جلسته وانحنائه الخفي على شخصيتين لهما الوقع الكبير وَالمُميَّز على قلبه المنفطر حُزناً , فبأحضان الأب المتألم والمودّع يلتحف طفلته البريئة رقيقة وكأنه يشاهد في ذات الموقف ما سَيَحل بها بَعدهُ عندما تساق مع السبايا في طريق الأحزان والمأساة ، التي سيُساق اليها فيما بعد رأس أبيها الحسين عليه السلام ؛ ليكون المشهد الأخير الذي تبصرهُ عيناها قبل رَحيلها عن الدنيا ، من شدة وهول ما رأتهُ وعظيم حزنها على أبيها , لتكون من الشهداء الأطفال الخالدين في التأريخ .

        ثم لتمتدَ يَدهُ الشَريفة على رأس اُختهِ العقيلة زينب ليمسح على رأسها مخففاً عنها شيئاً من عواصف الحُزن , وأعاصير الألم التي التحفت روحها الجريحة وفؤادها الدامي , ومُصّبراً لها بذات الوقت أن يحدث مَا هُوَ إلاّ معبرٌ الى البقاء والخلود في الدنيا قبل الآخرة , وكان للسيّدة زينب عليها السلام فيما بعد دَور الريادة في الأحداث , وكانت شمسً مشرقةً تُنيرُ بنورها على مَا حَول المجرمون إطفاءه بأفواههم وَجرائمهم . ( يُريدون ليطفئوا نورَ الله بأفواههم والله مُتِمُّ نوره ولو كره الكافرون ).

وَمن ثم تنتقل العين تلقائياً من هذا المشهدِ الثلاثي الى ( الفرس ) الأدهم الذي وَضعهُ الفنان خلفهم بأسوب وكيفية ترتيبهِ ؛ تلمحهُ العينُ تلقائياً ليُعبَّر من خلاله ؛ أن هذا الموقف المحزن لهذه الشخصيات العظيمة الثلاث في هذا المشهد المؤثر وإحاءاته العاطفية ؛ سَرى سحرها حتى لوجدان الفرس الذي ظهرت عليه هيأة الانجذاب والتأمل والحُزن المتدفق , مما كان بدُوْره مؤثراً تأثيراً مضافاً على تأثير الموقف .

     ثم يسترسل خط المنظور باستقامته ماضياً بالعين المُشاهدة إلى نهاية منظوره البعيد ؛ ليُوقعها على المشهد الذي يعصر القلب عصراً ؛ الى شخص الأمام ( السجاد ) عليه السلام ليُظهِرَ الفنان أن الجميع قد انشغلوا عنهُ باهتمامهم وأنظارهم نحو الامام الحُسين عليه السَّلام ؛ وَهم في غمرة وهول الموقف الذي أطفى المكان هديراً للحُزن والألم والذهول لكل المقاييس والرؤى الذي يميل الموجوع اليها في مثل هكذا مَوقفٍ .  يظهر الأمام السجاد عليه السلام وَهو يُصارعُ مرضه للنهُوض لأبيه , تاركاً فراشهُ الذي يظهَرُ أنه عليه السلام بذل مجهوداً مضنياً للزحف والجنُود نَحْو أبيهولم يرتوِ بما خُصَّ به من توديع وهو على فراشهِ , إغتناماً للحظات الأخيرة لوجود الحُسين عليه السلام بينهم , وذلك بحدِّ ذاته يُطفي على المشهد المجسَّد في هذه اللَّوحة التأمل في مَدى البشاعة المكنونة في جريمة الطف التي أرتكبها المجرمون ! بحق الأمام الحسين وأهل بيتهِ عليهم السلام أجمعين !

       ثم لا إراديّاً تأخذ العين بالتنقل بين لمسات الإبداع الفني والحرفي الذي أضفاه الفنان على الشخصيات الموّزعَة بشكل مَدْرُوس على جانبي اللوحة , وأخذت لمسات الأبداع فيها تشدُه عين المتلقي في كل شخصيَّةٍ لطفل أو لامرأة للوقوف معها والتأمُّلِ فيها , لِمَا تحمله من معانيٍ بَعْيدة الأفق , وألوان التأثر , بعد أضفى الفنان سحر الإبداع الفني على شخصيات مَشهَد الوداع , لم يكتفِ بجعل ذلك هوَ مادَّة العمل الفني فحَسْب , بل صَهَرَ هذا الحدث - وَعلى الرغم من كونه هو أول مَا يجذب العين نحوه , ويشده الفكر بأسْلُوب الطرح , الذي أرادهُ الفنان بهذه الأولوية في المخاطبة – مَعَ ذلك صَهَر الفَنان هذهِ الصُورة في داخل إطار الطبيعة التي كانت مَسْرحاً للأحداث , ولهذا المشهدِ خصُوصاً , فجعلهَا المادَّة الثانية , والمحطة التالية ؛ التي يرتع بثناياها المتلقي بعد الفراغ والانتقال مِن المادة والمحطة الأولى , وَصيغت هذه الطبيعة بأسلُوب صامت هادئ , بعيد من أي مظاهر الإثارة والحركة , كي لا يُشوش على انسيابية التنقل بثنايا هذا العمل الفني بتخبط وعشوائية , بل اُطفي عليها لون من الإبداع الذي صيرها منفصلة عن المضمُون الأصلي الذي لا يجذب عين المتلقي بدور الأولوية , وبنفس الوقت هي متصلة ومنسجمة في ثنايا العمل بشكل في غاية الروعة والانسجام , التي تأخذ المتلقي بالتأمل في صورة الإبداع والحرفية العالية التي قلَّ ما يوجد لها نظير في الأعمال الفنية المعاصرة ,طبيعة صامته تطفي هدير لحن الحزن الكوني على مشهد الوداع , والغضب الإلهي المُعَبَّرُ عنهُ في لوحة السُحُب المعبِّرةِ بألوانها وتفاعلاتها ؛وترك مشاهد الجريمة النكراء بالاكتمال للقدر الإلهي المكتوب .

      وأرادَ الفنان من خلال التفاصيل الدقيقة في ثنايا الطبيعة المحيطة والمُحتضنةُ للمشهد , أن يضفي للعمل الفني ثقله التعبيري ، والأسلوب الحِرفي الفني ، الذي يرفع بطبعه من قيمة العمل الفني ويرفعه من الناحية الجمالية وزيادة التأثير على المتلقي ، فكان عملاً فنيّاً له ثقله ومكانته ومضمونه ، ولم يُسبق بنظير على مستوى العالم العربي والعالمي ؛ من حيث المضمون والطرح الإبداعي .

    مَنْ ذا يقدم لي الجـــواد ولا متي              والصـحبُ صَرْعى والنـصيرُ قليلُ

    فأتتهُ زينب بالجـــواد تقــــودُهُ                والدمـــــع من ذكـر الفراق يسيلُ

    وتقــول قد قطعت قلبي يا أخي               حُـــزْناً فياليت الجبـــال تــــزولُ

     فلمَـنْ تُنَــاديْ والحماة على الثرى          صرعى ومنــهم لا يبـــلُّ غليـــلُ

     ما في الخيـــام وَقد تفانى أهلُــها           إلاَّ نسَــــــاءٌ وَلَّـــــه وَعليـــــلُ

     أرأيت أختـاً قدَّمـــت لشقـيقـها             فــــرسَ المنُن ولا حِمى وكفيـــــلُ

      فتبادرت منه الدمـــــوع وقـال           يا اُختـاهُ صَــبْراً فالمصاب جليــــلُ

     فبكـت وَقـالت يا ابـن امي ليس           لي وعليك مــا الصبر الجـميل جميلُ

     يا نور عيني يــا حشاشة مهـجتي         من للنــساء الضـــائعـــات دليـــلُ

     وَرَنت إلى نحـو الخيــــام بعـولة         عُظـمى تصـبُّ الدّمـع وهيَ تقولُ

      قومُــوا إلى التــوديع إن أخـــي           دَعــا بجـــواده إنَّ الفـراق طويلُ

      فخـرجن رَبَّـات الخدُود عواثراً            وعـــداً لها حول الحُــسين عَــويلُ

     الله مـا حــال العـليل وَقـد رأى           تـــلك المـدامِعُ للـــوداع تـــسيلُ

      فيقـــوم طوراً ثــم يكبُوا تـارةً           وعــــراهُ من ذكره الـــوداع نحولُ

     فغـدا يُنــادي والدمـــوع بوادِرُ          هــــل للوصـول الى الحسين سبيلُ

     هــذا أبيّ الضـــيم ينــعى نفسه          يــــا ليــتني دون الأبيّ قـتــــــيلُ

     أبتــــاه إِنّي بعـــد فقـدك هَالكٌ          حُــزنـــــاً وإنَي بعـــدكم لـذلـيلُ

                                                                                                             بقلم الفنان /حسن حمزة

 

 

 

 

gate.attachment